بالموصل، فطلبت إلى أحد العراقيين من طلبتي بكلية الآداب بجامعة فاروق حينما كنت أقوم بالتدريس فيها، أن يستنسخ لي صورة منها فلم يوفق. وعندما أو شكت أن أتم طبع نسختي من البيان والتبيين وقفت على شريط منه من مخطوطات تركيا التي اجتلبها معهد المخطوطات بالجامعة العربية، وهي نسخة مكتبة (فيض الله)، فحصلت على صورة منه، ووجدت في نهاية النسخة ورقة ملحقة، بها نص كامل لخطبة واصل، بخط كاتب النسخة، وهو محمد بن يوسف اللخمي، كتب النسخة سنة ٥٨٧ وقرأها على الإمام أبي ذر الخشني، فكان سروري بهذا النص النادر أشد من سروري بتلك النسخة العتيقة من كتاب البيان والتبيين. ولكني مع ذلك لم أقنع بهذا الظفر، فجعلت أقلب في كتاب مسالك الأبصار، وهو من أكبر الموسوعات الأدبية التاريخية الجديرة بالنشر، فوجدت نسخة من الخطبة بها قليل من التحريف، فاعتمدت على هاتين النسختين في نشر هذه التحفة، التي يضاعف من سروري أن أكون أول ناشر لها نشرا علمياً مقروناً بدراسة أدبية تاريخية.
[قيمة خطبة واصل]
تستمد خطبة واصل قيمتها من الظروف التي أحاطت بها، وقد سردتها في تضاعيف ما مضى من الكلام. ولسنا بحاجةٍ إلى أن نعيد القول في أن خطبة طويلة تقال ارتجالا واقتضاًباً في مقام رهيب، ويقتدر صاحبها على الاستغناء عن حرف هو من أكثر الحروف دورانا في الكلام (١) على حين أنها خطبة تتسم بطابع ديني، وتقتبس فيها معاني القرآن وأساليبه ونصوصه، فلا يفر صاحبها من أن يزوّد خطبته بذلك الزاد، ولكنه يفرُّ في حذق من ألفاظ معينه إلى مرادف لها - كل أولئك إنما ينبئ عن قدرة فنية لا تتأتى إلا للأفذاذ من الخطباء، فهو
(١) حفظ لنا التاريخ بعض الخطب التي نزعت منها حروف معينة، كخطبة أحمد بن علي بن الزيات المالقى المتوفى سنة ٧٢٨ فقد نزع منها (الألف)، أولها: «حمدت ربى جل من كريم محمود، وشكرته عز من عظيم معبود»، ولكنها لم تكن مرتجلة كخطبة واصل. انظر الإحاطة ١: ١٥٤ وجمهرة خطب العرب للأستاذ صفوت ٣: ٢٢٦.