للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المنّ من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أمر (١) إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين، والطيبات- المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الادخار، ومِنْ للتبعيض، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا: إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل- بالمنّ والسلوى- فكانا بدلا من الطيبات، وما موصولة والعائد محذوف- أي رزقناكموه- أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك (٢) وهو أحد أقوال في المسألة وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وَما ظَلَمُونا بذلك، ويجوز- كما في البحر- أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه ضرب تهكم بهم، والجمع بين صيغتي الماضي، والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفي ذكر أَنْفُسَهُمْ بجمع القلة تحقير لهم وتقليل، والنفس العاصية أقل من كل قليل وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ منصوبة على الظرفية عند سيبويه، والمفعولية عند الأخفش، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر السابقة واللاحقة.- والقرية- بفتح القاف- والكسر لغة أهل اليمن- المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة، وقيل: إن قلوا قيل لها: قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة، وأنهى بعضهم حدّ القلة إلى ثلاثة، والجمع القرى على غير قياس، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جمّ والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي والربيع وغيرهم- وإليه ذهب الجمهور- أنها بيت المقدس، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف (فكلوا) إلخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: ٢١] لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي، ومنهم من زعم اتحادهما. وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنهم لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام، ومنهم من ادّعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هارون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل، فالأظهر ما ذكرنا وقد روي أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا- وهي بأرض القدس- وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى: (فكلوا) إلخ، وقوله تعالى في الأعراف: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف: ١٦١] ويؤيد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب، والقول- بأنها نزلت منزلة القريب ترويجا للأمر- بعيد، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيها بالكسر والفتح


(١) وفي البحر أن من ذهب إلى الأصل في الأشياء الإباحة قال: المراد داوموا وا فتدبر اهـ منه.
(٢) ثانيها أنه يملك بالوضع فقط وثالثها بالأخذ والتناول، رابعها لا يملك بحال بل ينتفع به وهو على ملك المالك اهـ منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>