للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أحدهما الآخر لأنه يجوز أن تكون الجملة الآتية حالا بتقدير قد والاعتراض يقع بين الحال وصاحبها، فليس ما ذكر مخالفا لكلام النحاة، ولو سلم أنها ليست بحالية فما ذكروه هنا على مصطلح أهل المعاني وهم لا يشترطون الشرط المذكور، حتى جوزوا أن يكون الاعتراض في آخر الكلام كما صرح به ابن هشام في المغني، مع أن الجملة الآتية مفسرة لما في الجملة الأولى فهي مرتبطة بها معنى، واشتراط الارتباط الإعرابي عند النحاة غير مسلم أيضا فتأمل.

وجعل أبو البقاء جملة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ على تقدير عطف الموصول على ما قبل حالا من الضمير في مِنْ بَعْدِهِمْ. وجوز الاستئناف، ولعله أراد بذلك الضمير المستقر في الجار والمجرور لا الضمير المجرور بالإضافة لفقد شرط مجيء الحال منه، وجوز على تقدير كون الموصول مبتدأ كون تلك الجملة خبرا وكونها حالا والخبر قوله تعالى: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ والكثير على أنه استئناف لبيان نبئهم بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة، فبين كل رسول منهم لأمته طريق الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي على زعمكم، وهي البينات التي أظهروها حجة على صحة رسالتهم.

ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم أو الكتب والشرائع، وحاصله أنهم أشاروا إلى جوابهم هذا كأنهم قالوا: هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق، وهذا كما يقع في كلام المخاطبين أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه أو يقررونه ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب، فضمير أَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ إلى الكفار، والأيدي على حقيقتها، والرد مجاز عن الإشارة وهي تحتمل المقارنة والتقدم والتأخر، وقال أبو صالح: المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك للرسل عليهم السلام أن يكفوا ويسكتوا عن كلامهم كأنهم قالوا: اسكتوا فلا ينفعكم الإكثار ونحن مصرون على الكفر لا نقلع عنه. فكم أنا لا أصغي وأنت تطيل.

فالضميران للكفار أيضا وسائر ما في النظم على حقيقته.

وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن المراد أنهم عضوا أيديهم غيظا من شدة نفرتهم من رؤية الرسل وسماع كلامهم، فالضميران أيضا كما تقدم، واليد والفم على حقيقتهما، والرد كناية عن العض، ولا ينافي الحقيقة كون المعضوض الأنامل كما في قوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: ١١٩] فإن من عض موضعا من اليد يقال حقيقة إنه عض اليد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم تعجبا مما جاء به الرسل عليهم السلام، وهذا كما يضع من غلبه الضحك يده على فيه، فالضميران وسائر ما في النظم كما في القول الثاني، وجوز أن يرجع الضمير في أَيْدِيَهُمْ إلى الكفار وفي أَفْواهِهِمْ إلى الرسل عليهم السلام، وفيه احتمالان: الأول أنهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل عليهم السلام أن اسكتوا، والآخر أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل عليهم السلام منعا لهم من الكلام. وروي هذا عن الحسن، والكلام يحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون استعارة تمثيلية بأن يراد برد أيدي القوم إلى أفواه الرسل عليهم السلام عدم قبول كلامهم واستماعه مشبها بوضع اليد على فم المتكلم لإسكاته.

وظاهر ما في البحر يقتضي أنه حقيقة حيث قال: إن ذلك أبلغ في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل عليهم السلام والنيل منهم، وأن يكون الضمير في أَيْدِيَهُمْ للكفار وضمير أَفْواهِهِمْ للرسل عليهم السلام.

والأيدي جمع يد بمعنى النعمة أي ردوا نعم الرسل عليهم السلام التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والأحكام في أفواههم، ويكون ذلك مثلا لردها وتكذيبها بأن يشبه رد الكفار ذلك برد

<<  <  ج: ص:  >  >>