المعنى خلقناكم خلقا إجماليا من تراب ثُمَّ خلقناكم خلقا تفصيليا مِنْ نُطْفَةٍ أي مني من النطف بمعنى التقاطر، وقال الراغب: النطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل، قيل والتخصيص على هذا مع أن الخلق من ماءين لأن معظم أجزاء الإنسان مخلوق من ماء الرجل، والحق أن النطفة كما يعبر بها عن مني الرجل يعبر بها عن المني مطلقا وكلام الراغب ليس نصا في نفي ذلك، والظاهر أن المراد النطفة التي يخلق منها كل واحد بلا واسطة، وقيل:
المراد نطفة آدم عليه السلام وحكي ذلك عن النقاش وهو من البعد في غايته.
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المني ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من اللحم متكونة من العلقة وأصلها قطعة لحم بقدر ما يمضع مُخَلَّقَةٍ بالجر صفة مُضْغَةٍ وكذا قوله تعالى: وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.
وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال من النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه، والمشهور المتبادر أن المخلقة المستبينة الخلق أي مضغة مستبينة الخلق مصورة ومضغة لم يستبن خلقها وصورتها بعد، والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب المبني على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة وإنما أخرت لكونها عدم ملكة، وصيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة، وقيل: المخلقة المسوأة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه وصخرة خلقاء أي ملساء وجبل أخلق أي أملس، فالمعنى من نطفة مسواة لا نقص فيها ولا عيب في ابتداء خلقها ونطفة غير مسواة فيها عيب فالنطف التي يخلق منها الإنسان متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، وعن مجاهد وقتادة والشعبي وأبي العالية وعكرمة أن المخلقة التي تم لها مدة الحمل وتوارد عليها خلق بعد خلق وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت، واستدل له بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال: يا رب مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفها الرحم دما وإن قيل: مخلقة قال: يا رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وما الرزق، وبأي أرض تموت؟ الخبر وهو في حكم المرفوع، والمراد أنهم خلقوا من جنس هذه النطفة الموصوفة بالتامة والساقطة لا أنهم خلقوا من نطفة تامة ومن نطفة ساقطة إذ لا يتصور الخلق من النطفة الساقطة وهو ظاهر، وكأن التعرض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظم قدرته تعالى لِنُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بخلقنا، وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفما أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم ما لا يحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها أمر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي جزم بأن من قدر على خلق البشر أولا من تراب لم يذق ماء الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هي أهون في القياس، وقدر بعضهم المفعول خاصا أي لنبين لكم أمر البعث وليس بذاك.
وأبعد جدا من زعم أن المعنى لنبين لكم أن التخليق اختيار من الفاعل المختار ولولا ذلك ما صار بعض أفراد المضغة غير مخلق، وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» بالباء على طريق الالتفات وكذا قرأ قوله تعالى: