فإن قيل: فإذا كان السجع أعلى درجات الكلام على ما ذهبت إليه، فكان ينبغي أن يأتي القرآن كله مسجوعا؟ وليس الأمر كذلك، بل منه المسجوع ومنه غير المسجوع.
قلت في الجواب: إن أكثر القرآن مسجوع، حتى إن السورة لتأتي جميعها مسجوعة، وما منع أن يأتي القرآن كله مسجوعا إلا أنه سلك [به] مسلك الإيجاز والاختصار، والسجع لا يؤاتي في كل موضع من الكلام على حد الإيجاز والاختصار، فترك استعماله في جميع القرآن لهذا السبب.
وههنا وجه آخر هو أقوى من الأول، ولذلك ثبت أن المسجوع من الكلام أفضل من غير المسجوع، وإنما تضمن القرآن غير المسجوع لأن ورود غير المسجوع معجزا أبلغ في باب الإعجاز من ورود المسجوع، ومن أجل ذلك تضمن القرآن القسمين جميعا.
واعلم أن للسجع سرا هو خلاصته المطلوبة فإن عري الكلام المسجوع منه فلا يعتدّ به أصلا، وهذا شيء لم ينبه عليه أحد غيري، وسأبينه ههنا، وأقول فيه قولا هو أبين مما تقدم، وأمثّل لك مثالا إذا حذوته أمنت الطاعن، والعائب، وقيل في كلامك: ليبلّغ الشاهد الغائب، والذي أقوله في ذلك هو أن تكون كل واحدة من السجعتين المزدوجتين مشتملة على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه أختها، فإن كان المعنى فيهما سواء فذاك هو التطويل بعينه؛ لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها، وإذا وردت سجعتان يدلّان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه، وجلّ كلام الناس المسجوع جار عليه، وإذا تأملت كتابة المفلقين ممن تقدم كالصّابي وابن العميد وابن عبّاد وفلان وفلان فإنك ترى أكثر المسجوع منه كذلك، والأقلّ منه على ما أشرت إليه.
ولقد تصفحت المقامات الحريرية والخطب النّباتية، على غرام الناس بهما، وإكبابهم عليهما، فوجدت الأكثر من السجع فيهما على الأسلوب الذي أنكرته.
فالكلام المسجوع إذا يحتاج إلى أربع شرائط: الأولى: اختيار مفردات الألفاظ على الوجه الذي أشرت إليه فما تقدم، الثانية: اختيار التركيب على الوجه