يسبك الأموال مآثر، ويتّخذها عند السؤال ذخائر، فهي تفنى لديهم بالإنفاق، وذكرها على مرور الأيام باق، ومن أربح منه صفقة وقد باع صامتا بناطق، وما هو معرّض لحوادث السرقات بما لا تصل إليه يد سارق، ومثله من عرف الدنيا فرغب عن اقتنائها، وجدّ في ابتناء المحامد بهدم بنائها، وعلم أن مالها ليس عند الضنين به إلا أحجارا، وأن غناه منها لا يزيده إلا افتقارا؛ فهو لماله عبد يخدمه ولا يستخدمه، وأم ترضعه بسعيها ولا تفطمه.
ومنه ما كتبته في جواب كتاب يتضمن إباق غلام، وهو أول كتاب ورد من المكتوب عنه إلى المكتوب إليه؛ فقلت: وأما الإشارة الكريمة في أمر الغلام الآبق عن الخدمة فقد يفرّ المهر من عليقه، ويطير الفراش إلى حريقه، وغير بعيد أن ينبو مضجعه، أو يكبو به مطمعه، فيرجع وقد حمد من رجوعه ما ذمه من ذهابه، وعلم أن الغنيمة كل الغنيمة في إيابه، فما كل شجرة تحلو لذائقها، ولا كل دار ترحّب بطارقها، ومن أبق عن مولاه مغاضبا، وجانب محلّ إحسانه الذي لم يكن مجانبا، فإنه يجد من مفارقة الإحسان، ما يجده من مفارقة معاهد الأوطان، وهل أضلّ سعيا ممّن دفع في صدر العافية وغدا يسأل عن الأسقام، وألقى الثروة من يده ومضى في طلب الإعدام، ومع هذا فإن الخادم يشكره على ذنب الإباق الذي أقدم على اجتراحه، وليس ذلك إلا لأنه صار سببا لافتتاح باب المكاتبة الذي لم يطمع في افتتاحه، ولا جزاء له عنده إلا السعي في إعادته إلى الخدمة التي تقلب في إنشائها، وهي أبرّ به من أمّه التي تقلب في أحشائها، ومن فضلها أنها تلقاه من حلمها بوسيلة الشافع، ومن كرمها بالوجه الضاحك والفضل الواسع.
فانظر أيها المتأمل إلى هذه الأسجاع جميعها وأعطها حقّ النظر حتى تعلم أن كل واحدة منها تختص بمعنى ليس في أختها التي تليها، وكذلك فليكن السجع، وإلا فلا.
وسأورد ههنا من كلام الصابي ما ستراه:
فمن ذلك تحميد في كتاب؛ فقال: «الحمد لله الذي لا تدركه الأعين