[صفة العلو في سنة رسول الله]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بكلفة، مثل قصة معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقول الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: (فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم)].
والعروج يكون من أسفل إلى أعلى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟!).
وإذا أطلق لفظ (السماء) كان المراد به: العلو.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع)، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتكى أحد منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء) وذكره.
وقوله في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه)، رواه أحمد أبو داود وغيرهما.
وهذا الحديث مع أنه قد رواه أهل السنن، كـ أبي داود وابن ماجة والترمذي وغيرهم، وهو مروي من طريقين مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه: ألا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم].
أي: إن هذا أن الحديث وإن كان فيه ضعف إلا أنه مروي من طريقين يشد بعضهما بعضاً، فيكون حسناً لغيره، وله أيضاً شواهد كثيرة من الكتاب والسنة؛ لأن بعض الناس يطعن في حديث الأوعال.
ولو فرضنا أنهم طعنوا فيه، أو أنه لم يصح فنصوص العلو كما قال ابن القيم: تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف، ومع ذلك فله طريقان وله شواهد كثيرة من الكتاب والسنة كثيرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الصحيح للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة)].
دل على السؤال عن الله بأين، وأين إنما يسأل بها عن المكان، ولما قالت: في السماء، أقرها على ذلك، ولهذا فإن أهل البدع يجلبون بخيلهم ورجلهم على كلمة أين، ويقولون: هذا خطأ من الجارية، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرها على الخطأ مراعاة لعقلها، وخاطبها على مقدار عقلها؛ لأنها لن تفطن لكلامه.
يقولون: لأن السؤال عنه بأين معناه: أنه في مكان، وإذا كان في مكان يكون محدوداً متحيزاً، وهذا كفر عند أهل البدع، ومن قال: إن الله في السماء كفروه، وإذا رفعت أصبعك إلى السماء قطعها الجهمي؛ لأنه يقول: هذا تنقص لله.
فهم يخطئون الجارية، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرها على جواب فاسد، وسألها سؤالاً فاسداً؛ وذلك مراعاة لعقلها، فهكذا اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم! فمقصود الرسول صلى الله عليه وسلم -كما يزعمون- بقوله: (أين الله؟) أي: من الله، فخاطبها على مقدار عقلها.
والرسول كان أفصح الناس فهل من المعقول أنه لم يستطع أن يقول: من الله؟ أو لم يفرق بين (من) المكونة من حرفين وبين (أين) المكونة من ثلاثة أحرف؟ ولكن لما أرادوا الفرار قالوا: لا يسأل عن الله بكلمة أين.
وهذا حديث ثابت في صحيح مسلم، لكن غلبة الهوى، ومتابعة أهل البدع والضلال حملهم على هذا.
هذا يخشى أن يكون كفراً، لكن قد يقال: إنهم متأولون، وقد كفر الجهمية بعض أهل العلم كما ذكر ابن القيم، والمعتزلة كفرهم أيضاً جمع من أهل العلم، ومن العلماء من قال: إنهم مبتدعة متأولون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الصحيح: (أن الله لما خلق الخلق كتب فى كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبى)].
فدل على أن الله عز وجل فوق العرش.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله فى حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله) إسناده على شرط الصحيحين.
وقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذى أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقره عليه.
شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا].
فأثبت أن الله فوق العرش، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
أورد هذه الأبيات ابن عبد البر في الاستيعاب وقال: وقصته مع زوجته حين وقع على أمته مشهورة، رويناها من وجوه صحاح، ورواه الدارمي في الرد على الجهمية وابن عساكر في تهذيب دمشق، والذهبي في السير وفي العلو، وقال: روي من وجوه مرسلة، منها: يحيى بن أيوب المصري قال: حدثنا عمارة بن غزية عن قدامة بن محمد بن إبراهيم الحطابي فذكره، فالمعروف أنه منقطع.
وقصته مع زوجته ذكرها ابن قدامة في العلو، وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية، وشرح العقيدة الطحاوية، وروى القصة الدارقطني في سننه، مع اختلاف الأبيات، فمجمل قصته مع زوجته (أنه كان لـ عبد الله رضي الله عنه جارية، فأبصرته زوجته يوماً وقد خلا بها، فقالت: لقد اخترت أمتك على حرتك! فأنكر ذلك، قالت: إن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن، وكانت تعلم أن الجنب لا يقرأ القرآن على هذه الحالة، قال: فأسمعها البيت الأول من الأبيات الواردة في النص، وكانت لا تعرف القرآن، فظنت أن ما قرأه قرآناً، قالت: فزدني آية، فقال: وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام ملائكة الإله مقربينا.
فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فضحك من صنيعه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال: (آمن شعره وكفر قلبه).
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء العالي الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريراً شرجعاً ما يناله بصر العين يرى دونه الملائك صوراً].
فقوله: شرجعاً أي: مرتفعاً.
ورد هذا الأثر في البداية والنهاية، والتهذيب.
والظاهر من قوله: (آمن شعره وكفر قلبه) أن أمية لم يؤمن، والحديث بهذا اللفظ رواه ابن عبد البر في التمهيد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والقرطبي في التفسير، والحافظ في الفتح، وسكت عنه، وابن كثير في التفسير، وفي البداية والنهاية، وقال عقبه: لا أعرفه والله أعلم.
وذكره العجلوني في كشف الخفا، وقال: قال المناوي: وسند الحديث ضعيف، والحديث له شاهد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) رواه البخاري ومسلم].
فالظاهر أن أمية كاد أن يسلم لكنه ما أسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الذي في السنن: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً)].
وهذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجة، وابن أبي شيبة، وابن حبان، والحافظ في المستدرك، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والبغوي في شرح السنة، وابن عدي في الكامل، والخطيب في تاريخ بغداد، وقال عنه الحافظ في الفتح: سنده جيد، وصححه الألباني.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب)، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين].
أي أن هذه النصوص من الكتاب والسنة تفيد العلم واليقين بأن الله تعالى في السماء، كما تفيد المسلم اعتقاداً وتيقناً أن الله تعالى في العلو، إلا من اجتالتهم الشياطين عن فطرتهم وأفسدتها بسبب انحرافهم فلا عبرة بهم.
وكما ذكر ابن القيم أن النصوص كثيرة لا حصر لها، بحيث تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف.