[عبارات السلف في إثبات الصفات]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، فلا يجعلون عند الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في باب معرفة الله عز وجل لا علوماً عقلية ولا سمعية، وهم قد شاركوا في هذا الملاحدة من وجوه متعددة، وهم مخطئون فيما نسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة.
ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها، وألفاظ من نقل مذهبهم بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم.
روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون المتوافرون نقول: إن الله -تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين، الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت.
وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثورى والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقال: أمروها كما جاءت، وفى رواية فقالوا: أمرها كما جاءت بلا كيف].
أي: أمروها كما جاءت بلا تأويل للكيفية، فأفهموا معناها وأمروها ولا تكيفوا الصفات، إذ المعنى لا بد منه، فإمرارها فهم لمعناها، فالمراد إمرار اللفظ مع فهم المعنى، وتفويض الكيفية إلى الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف رد على الممثلة].
وإنما قالوا: إمرارها كما جاءت؛ لأنها جاءت ليفهم الناس المعنى، وهذا رد على المعطلة الذين يعطلون الصفات، وقوله: بلا كيف، رد على الممثلة الذين يشبهون ويمثلون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين].
وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما.
روى أبو القاسم الأزدي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا].
روى هذا الأثر الآجري، وابن بطة، واللالكائي، والخطيب البغدادي، وأبو يعلى، وأبو نعيم، ورواه الخلال في السنة، وهكذا الذهبي، والسيوطي، وذكره القاضي عياض في ترتيب المدائن.
وروى البخاري شيئاً منه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق].
وروي عن الإمام مالك أنه قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وروي عنه أنه قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وروي هذا أيضاً عن أم سلمة، لكن لا يصح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة من غير وجه، منها ما رواه أبو الشيخ الاصبهاني، وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله!: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء - العرق من شدة إنكاره لهذا السؤال- ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول].
قوله: الاستواء غير مجهول، أي: معلوم، ففي اللغة العربية استوى بمعنى: استقر وعلا وصعد وارتفع، وكيفية استواء الرب غير معقول، أي: لا نعقله ولا نكيفه، وقوله: والإيمان به واجب، أي: الإيمان بهذه الصفة واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، وهذا يقال في جميع الصفات فيقال في العلم: العلم معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ويقال في يد الله: اليد معلومه، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب والسؤال عنها بدعة، وهكذا في جميع الصفات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، فأمر به أن يخرج.
فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة].
والمفوضة يفوضون معنى الصفة، فيقولون عن الاستواء لا نعرف ما معنى الاستواء، فلا يثبتون إلا اللفظ فقط، أما المعنى فيقولون: لا ندري، كأنه كلمات أعجمية، فالكلمة العربية والأعجمية عندهم سواء، وهذا غلط، قال بعض العلماء: المفوضة شر من المعطلة، إذ التفويض للمعنى شر من التعطيل، حتى قال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفهم معنى الاستواء، ولا جبريل ولا غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فان الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم.
وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات].
يعني: إذا أثبت المعنى نفيت علم الكيفية، أما إذا كان المعنى ليس بمعلوم فلا يحتاج أن يقال بلا كيف، إذ الكيف غير معقول، واللفظ أيضاً غير مفهوم المعنى، إذ لو كان المعنى غير مفهوم، لما احتاج إلى نفي الكيفية، فلما نفى الكيفية دل على أن المعنى معلوم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فإن من ينفي الصفات الخبرية -أو الصفات مطلقاً- لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف].
الصفات الخبرية هي: التي جاءت في الخبر، جاءت في النصوص، الخبرية، أما الصفات العقيلة: فهي التي دل عليها العقل عندهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن قال إن الله سبحانه ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف.
وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف إذ نفي الكيفية عما ليس بثابت لغو من القول].
فكيف ينفى الكيف والمعنى منفي! فإنه إذا كان المعنى غير مفهوم، فلا داعي لنفي الكيفية، ولكنه لما نفي الكيف دل على أن المعنى معلوم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الأثرم في السنة، وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة، وأبو عمر الطلمنكى، وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبى سلمة الماجشون -وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبى ذئب - وقد سئل فيما جحدت به الجهمية؟ أما بعد: فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت -أي: استمرت عليه وتتابعت- الجهمية ومن خالفها -وفي نسخة ومن خلفها- في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدره، وردت عظمته العقول، فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهى حسيرة.
وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: كيف لمن لم يكن مرة ثم كان].
أي: أن الذي أمر بالتفكير فيه إنما هي المخلوقات التي قدرها معلوم وهي التي كانت معدومة ثم أوجدها الله، أما الله فإنه واجب الوجود لذاته سبحانه، لا يحيط الخلق بعظمته ولا بعلمه، قال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما يقال: كيف لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فانه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يمت ولا يبلى].
قوله: من لم يبدأ، أي: ليس له بداية، فهو الأول الذ