[نصوص المعية لا تعارض ولا تنسخ نصوص الفوقية]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:٨٤]، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:١٦]، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:٣]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:٧]، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك].
يعني: نصوص المعية ليست ناسخة لنصوص العلو والفوقية، وليست ضدها؛ لأن المعية ليس معناها أنه مختلط بالخلق سبحانه وتعالى، فإن معنى المعية في اللغة: المصاحبة، يقال: فلان مع فلان، يعني: مصاحب له، ولا يلزم منه المحاذاة أو الاختلاط والامتزاج، تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير والنجم معنا، مع أن القمر والنجم في الأعلى، فهذه المعية هي بمعنى: المصاحبة.
فالمبتدعة من الجهمية أبطلوا نصوص الفوقية بنصوص المعية، وقالوا: نصوص المعية تدل على أن الله مختلط بالمخلوقات، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤]، وهذا يبطل نصوص العلو، فضربوا النصوص بعضها ببعض، ولهذا قالوا: إن نصوص المعية تبطل نصوص الفوقية وتنقضها، فقالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات.
وهذا من أبطل الباطل، فالشيخ رحمه الله يقول: ليس هناك معارضة بين هذه النصوص، فإن نصوص المعية حق، ونصوص العلو حق، فنصوص العلو محكمة، بأن الله فوق العرش، وفوق المخلوقات، ونصوص المعية معناها: المصاحبة، فهو سبحانه مع المخلوقات بعلمه واطلاعه وإحاطته، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، فلا منافاة، وهو مع المؤمنين بنصره وتأييده وتوفيقه وتسديده، ومعهم بعلمه وإحاطته واطلاعه، وهو فوق العرش، وفوق المخلوقات ولا منافاة، فالمعية لا تفيد اختلاط المخلوقات، فقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:٧]، يعني: بعلمه، بدليل أن الله استفتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:٧]، ثم قال في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧]، فهذه معية علم واطلاع وإحاطة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته، فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جل وعز عن ذلك].
يقصد المؤلف رحمه الله أن آيات المعية لا تدل على أن الله تعالى خلق المخلوقات بذاته، فينقل بانتقالها، أو يتبعض فيها على أقدارها، أو يزول عند زوالها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فهو سبحانه وتعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، وينزل إلى السماء الدنيا، نزولاً حقيقياً، كما يليق بجلاله وعظمته، لا نزول أمره، ولا نعلم الكيفية، فالنزول معلوم، والكيف مجهول.
فهو سبحانه ينزل كما يشاء سبحانه وتعالى، فلا نكيف، ولا نقول: إنه ينزل ويكون بين طبقتين، مثل نزول المخلوق، فإن هذا تشبيه وتمثيل، ولا يقوله إلا المشبهة والممثلة، فإنهم يقولون: إن الله تعالى بين طبقتين، فهذا لا يقوله مسلم، إنما هو قول الجهمية والمعتزلة، حيث يقولون: إنه سبحانه مختلط بالمخلوقات، فهذا الكلام الذي رده الشيخ وقال: لا توجد منافاة، فنصوص العلو محكمة، والنزول يليق بجلاله وعظمته، لا نعلم كيفيته، نزوله معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائناً، كما هو على العرش، ولا فرقان بين ذلك عندهم].
هذا قول الجهمية الملاحدة الحلولية نعوذ بالله، فقد قالوا: إن الله في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، حتى قالوا إنه في أجواف الطيور، وبطون السباع، وفي كل مكان، ولم ينزهوه عن شيء نعوذ بالله، وهل يجرؤ عاقل أن يقول مثل هذا الكلام، قالوا: إنه مثل الهواء الذي ما يخلو منه مكان، نعوذ بالله من الزيغ والضلال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئاً في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائناً، ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء].
يعني: هم قالوا: إنه في كل مكان، ثم قالوا: إنه يستحيل عليه أن يكون في كذا، ويستحيل أن يكون في كذا، وهذا لا يفيدهم؛ لأنهم أثبتوا أنه في كل مكان، فما يفيدهم قولهم إنه يجوز عليه كذا، ولا يجوز عليه كذا.
والآيات التي احتجوا بها هي آيات المعية مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:٨٤]، قالوا: هذا يدل على أنه مختلط بكل المخلوقات.
فهم يقولون: إنه في كل مكان، ثم قالوا: لا كالشيء في الشيء، يعني: لا كالماء حينما يكون في الكوز.
فهذا تناقض عجيب عندهم، وأحياناً يقولون: إنه مثل الهواء، وأحياناً يقولون: إنه لا يكون كالشيء بالشيء، يعني: لا يكون ملاصقاً، فهو في كل مكان لكن ليس ملاصقاً، لا كالشيء في الشيء، لا كالماء إذا حل في الكوز، وهذا من تناقضهم، كما قال أبو عبد الله المحاسبي رحمه الله: هذا تناقض، فإنهم قد أثبتوا أنه داخل المخلوقات، فلا يفيدهم قولهم: إنه لا كالشيء في الشيء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبد الله: أما قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:٣١]، {وَسَيَرَى اللَّهُ} [التوبة:٩٤]، {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:١٥]، فإنما معناه: حتى يكون الموجود، فيعلمه موجوداً، ويسمعه مسموعاً، ويبصره مبصراً، لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر.
وأما قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} [الإسراء:١٦] إذا جاء وقت كون المراد فيه.
وأن قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨]، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:١٦]، {إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:٤٢] فهذا وغيره مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠]، هذا مقطع يوجب أنه فوق العرش].
يعني: أن الأدلة على صفة العلو أنواع، منها قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} [فاطر:١٠]، فهذا نوع من الأدلة؛ لأن الصعود يكون من أسفل إلى أعلى.
وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨]، هذا نوع آخر من الأدلة، فهي أنواع متعددة.
وقوله: مقطع، أقرب من قوله: منقطع، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا مقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، يعنى: فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء].
قوله: من كان فوق كل شيء على السماء فهو في السماء، يعني: في العلو، فهنا (في) ظرفية، ولا يلزم من ذلك أن يكون داخل السماوات، فالعلو: كل ما كان فوق العرش، والله تعالى له أعلى العلو وهو فوق العرش.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال مثل ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:٢]، يعنى: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:٢٦]، يعني: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١]، يعني: فوقها عليها].
ومثله قولهم: فلان في السطح، ليس المراد: أنه داخل الجدران، بل المراد: أنه موجود فوق السطح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، ثم فصل فقال: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:١٦]، ولم يصل فلم يكن لذلك معنى -إذ فصل قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، ثم استأنف التخويف بالخسف- إلا أنه على عرشه فوق السماء].
أي: قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، يعني: في العلو، ويعني: على السماء، فالسماء تطلق على إطلاقين: على العلو فتكون (في) ظرفية، وهذا هو الأصل، وتطلق السماء على الطباق المبنية، وهنا تكون (في) بمعنى على.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:٥]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤]، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] فقال: صعودها إليه، وفصله بقوله: (إليه)، كقول القائل: أصعد إلى فلان في ليلة أو يوم، وذلك أنه في العلو، وأن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل، وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع