[كلام أبي إسماعيل الهروي في إثبات الأسماء والصفات]
قال المؤلف رحمه الله: [ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه الفاروق].
أي: شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الحنبلي الصوفي.
وكتاب الفاروق هو كتاب في إثبات الصفات، وهذا شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الصوفي الحنبلي وهو الذي صنف كتاب (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، وشرحه ابن القيم في كتاب مدارج السالكين وكتاب شيخ الإسلام الفاروق كتاب جيد في إثبات الأسماء والصفات، وفيه رد على المعطلة وأهل البدع ونفاة الصفات، حتى حصل بينهم مشادة، حتى أنهم أرادوا قتله، وسعوا به إلى السلطان.
لكن لما جاء في باب السلوك عطل العبادة، وصار يتعلق بالفناء ويشير إليه، فكما أن أولئك عطلوا الخالق من الصفات، فهذا عطل الخالق من العبادة، فوافقهم من حيث لا يشعر، وافقهم في التعطيل، فالذين أنكروا الأسماء والصفات عطلوا الخالق من صفاته وهو لما جاء في باب السلوك عطل الخالق من العبادة واكتفى بالشهود والنظر إلى الله، وابن القيم يعتذر عنه كثيراً في مدارج السالكين، ويقول شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه.
قال: [ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه (الفاروق) فقال: حدثنا يحيى بن عمار، حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل، وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه: (التعرف بأحوال العباد والمتعبدين) قال: (باب ما يجيء به الشيطان للتائبين)، وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد، فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكيك، أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل.
فقال بعد ذكر حديث الوسوسة: واعلم رحمك الله تعالى، أن كل ما توهمه قلبك، أو سنح في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك، من حسن، أو بهاء، أو ضياء، أو إشراق أو جمال، أو شبح مائل، أو شخص متمثل، فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٤]، أي: لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أولم تعلم أنه تعالى لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفء].
وفي نسخة أخرى: فرد بما بين الله في كتابه من نفيه عن نفسه، وهي مثل قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥]، فيمكن تصلح هنا، وهذه العبارة لها وجهان، فالله سبحانه رد عن نفسه النفي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥]، وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤]، وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:٢٢].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن اعتصمت بها، وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تبارك وتعالى وتقدس، في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لك: إذا كان موصوفاً بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى.
واعلم -رحمك الله تعالى- أن الله تعالى واحد لا كالآحاد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، إلى أن قال: خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خلياً، واسماً كان منه برياً، تبارك وتعالى، فكان هادياً سيهدي، وخالقاً سيخلق، ورازقاً سيرزق، وغافراً سيغفر، وفاعلاً سيفعل، لم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل فهو يسمى به في جملة فعله.
قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢٢]، بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجوداً بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية، فتستحسر العقول، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين، لا معطلاً ولا مشبهاً، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلماً، مستسلماً، مصدقاً، بلا مباحثة التنفير، ولا مناسبة التنقير، إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: {أَنَا اللَّهُ} [القصص:٣٠]، لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائياً].
في نسخة أخرى فيستحسر العقل، بدلاً من: فتستحسر العقول، يعني: تنقطع وتعجز.
وقوله: فهو تبارك وتعالى القائل: {أَنَا اللَّهُ} [القصص:٣٠] لا الشجرة، رد على الجهمية والمعتزلة حيث يقولون: إن الشجرة هي التي قالت: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:٣٠]، وذلك في قصة موسى عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:٢٩ - ٣٠].
فالجهمية والمعتزلة يقولون: إن الشجرة هي التي قالت: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:٣٠]، أي: خلق الله الكلام في الشجرة، فالمؤلف هنا يقصد الرد عليهم فيقول: إن الله هو الذي قال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:٣٠]، لا الشجرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الجائي قبل أن يكون جائياً، لا أمره].
كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:٢٢]، يعني: هو الجائي بنفسه سبحانه وتعالى، ليس المراد جاء أمره، كما تقول ذلك الأشاعرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المتجلي لأوليائه في الميعاد، فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان، تبارك وتعالى، الذي كلم موسى تكليماً، وأراه من آياته فسمع موسى كلام الله؛ لأنه قربه نجياً، تقدس أن يكون كلامه مخلوقاً أو محدثاً أو مربوباً، الوارث بخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسادهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه، وهو أمره -تعالى وتقدس- أن يحل بجسم، أو يمازج بجسم، أو يلاصق به تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
أي: أنه تعالى نفخ فيه من روحه، وهو أمره، أي: أن الروح مأمورة، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥]، فالروح من مخلوقاته سبحانه وتعالى، أي: من الأرواح التي خلقها، وأضيفت إلى الله للتشريف، مثل قوله: عيسى روح الله، يعني: روح من الأرواح التي خلقها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الشائي له المشيئة].
هنا المؤلف رحمه الله اشتق الشائي من المشيئة، وهذا الاشتقاق وإن كان فيه نظر، إلا أن المؤلف رحمه الله ينقل النقول ولا يعني هذا أنه يوافق أهل البدع في كل ما يقولون، فهو إنما يبين أن العلماء كلهم يخالفون مذهب المعطلة ويردون عليهم، فكلمة الشائي، اشتقاق من المشيئة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [العالم له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس، إلى أن قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠]، القائل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:١٦ - ١٧]، تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء، جل عن ذلك علواً كبيراً].