[الرد على من احتج بالعقل في نفي الصفات]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟! فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء، وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر، وهو من وجوه: أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك.
الثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.
قوله: أجدل يعني: أشد جدلاً، وأكثر جدلاً، والمعنى: كل ما جاءنا رجل جدلي نترك الكتاب والسنة لجدله، ويأتي واحد آخر أجدل منه أشد جدل وهكذا].
الشيخ: أما دعوى أن العقل يحيل ذلك فنحن نبين أن العقل لا يحيل ذلك، إذ أي إحالة في كون الله فوق العرش؟ بل العقل يوجب هذا، فالله تعالى فوق مخلوقاته سبحانه وتعالى، فإنه بعد أن تنتهي المخلوقات التي سقفها عرش الرحمن، فالله فوق العرش، مطلع على عباده محيط بهم، تنفذ فيهم قدرته ومشيئته، يعلم أحوالهم ويراهم، وهو مع كل إنسان بعلمه وإحاطته واطلاعه، وهو مع المؤمنين بنصره وعونه وتأييده، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى.
فأي إحالة في هذا؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها بالاضطرار، كما علم أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن هذا، بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم، وسائر ما جاءت به النبوات].
الشيخ: أي: لو فتح باب التأويل، فإن القرامطة والباطنية سيتسلطون على الجهمية والمعتزلة، فالجهمية والمعتزلة قالوا: ننفي صفات الله: العلم والسمع والبصر، ولا نقول: إنه يسمى بهذه الأسماء، فإذا قيل لهم: لماذا تنفوها؟ قالوا: لأن هذا يحيله العقل، فإذا سئلوا ما المراد؟ قالوا: المراد المعاني المجازية، فمعنى استوى: استولى، فإذا قالوا ذلك تسلط عليهم القرامطة والباطنية، فقالوا: ليس هناك صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا بعث، وقالوا: الصلاة معناه أسماء خمسة: علي وفاطمة وحسن وحسين ومحمد، فهذه الصلوات الخمس.
والصوم: كتمان سر المشايخ، والحج: السفر إلى الشيوخ، ويزعمون أن لا بعث للأجساد، وإنما بعث للأرواح، فقال لهم الجهمية والمعتزلة: لماذا تنكرون ذلك، فإن هذا كفر: لأنكم بدلتم الدين، وأولتم نصوصاً صريحة لا يمكن أن تؤول، فاحتجوا عليهم وقالوا: أنتم أولتم الاستواء والعلم والرحمة فما الفرق بين هذا وهذا؟ وإذا كان هذا التأويل يجوز لكم فمن الذي يمنع التأويل هنا؟ وبذلك تسلطوا عليهم، وفتحوا باب الشر لهم، أي: أن المعتزلة والجهمية فتحوا باباً للقرامطة والباطنية، فأولوا الصلاة والزكاة والصوم والحج والبعث والجنة النار، وقالوا: كل هذه ليست على ظاهرها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص؛ وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك تفصيلة وإنما عقله مجملاً إلى غير ذلك من الوجوه].
الشيخ: وذلك؛ لأن العقل الصحيح يوافق النقل الصريح، والشريعة ما جاءت بشيء ينافي العقول الصحيحة، وإن جاءت بما تتحير فيه العقول، ولا تدركه على استقلاله، فالشريعة لم تأت بشيء تحيله العقول، وإنما جاءت بشيء تتحير فيه العقول.
وهذا هو معنى قول العلماء: الشريعة جاءت بمحارات العقول لا بمحالاتها، فالعقل الصريح يوافق النقل الصريح، ولهذا ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتاباً سماه: موافقة النقل الصحيح للعقل الصريح، وهو كتاب عظيم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [على أن الأساطين من هؤلاء والفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية].
الشيخ: إذ الأساطين والفحول والعقلاء من الفلاسفة القدامى وغيرهم معترفون بأن العقل لا يمكن أن يدرك تفاصيل ما جاءت به الشريعة، وكلهم يعظم الشرائع والإلهيات، ويقولون: إن الرسل جاءت بالآلاهيات، ونحن اختصاصنا بالرياضيات والطبيعيات، فلا نتدخل في ما هو من شأنهم، وهم في الجملة يسلمون للرسل الإلهيات، حتى جاء الفلاسفة المشائيون، ورئيسهم أرسطو ثم الفارابي ثم أبو علي بن سيناء فابتدعوا القول بقدم العالم، وقالوا: إن العالم قديم، وهذا معناه إنكاراً لوجود الله نعوذ بالله.
وقطعاً العقل لا يصل إلى اليقين، وإنما هذا من خواص الوحي، ومما جاء به الوحي.