[اختلاف المعية باختلاف مواردها]
قال المصنف رحمه الله: [ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤]، دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه].
ولا يعتبر هذا تأويل؛ لأن الله تعالى نص على هذا المعنى فقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} [الحديد:٤]، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤]، فدل على معية علم، وكما في سورة المجادلة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧]، فافتتح الآيات بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أنها معية العلم بنص الكتاب لا كما يزعمه البعض أن هذا تأويل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته، وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:٧]، إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠]، كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد].
أي: أن قوله: (لا تحزن إن الله معنا) يدل على المعية الخاصة وهي معية نصر وتأييد وحفظ وكلاءة مع العلم والإحاطة، ويجتمع في المؤمن معيتان: معية عامة، وهي معية الإحاطة والعلم، ونفوذ القدرة والمشيئة، وهذه عامة للمؤمن والكافر، يقول تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤] وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:٧]، وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:١٠٨]، وقد تأتي المعية العامة في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧].
أما المعية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين وتأتي في سياق المدح والثناء، كقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٣].
وتجتمع المعيتان في حق المؤمن، فالله تعالى مع المؤمنين بنصره وتأييده، وهو معهم بعلمه وإحاطته، وينفرد الكافر بالمعية العامة فقط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨]، وكذلك قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد.
وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي، فيشرف عليه أبوه من فوق السقف ويقول: لا تخف أنا معك، أو أنا حاضر ونحو ذلك، ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه، ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فتختلف باختلاف المواضع.
فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب مختلطة بالخلق حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها].
لكن بعض أهل البدع فهموا فهماً معكوساً من عند أنفسهم، فهم لا يدل عليه دليل لا من العقل، ولا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من مدلولات المعية ودلالتها، فقالوا: إن معنى (وهو معكم) أي: مختلط بكم وهؤلاء هم الجهمية، حيث أبطلوا نصوص العلو والفوقية بنصوص المعية، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: معنى (وهو معكم) أي: أنه مشتق من مخلوقاته، وأن ذاته في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.