[الرد على من زعم رؤية الله في الدنيا]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملاً من غير استقصاء، إذ قد تقدم القول عن مشايخنا المعروفين من أهل الإمامة والديانة، إلا أني أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثه طائفة انتسبوا إليهم، ما قد تخرصوا من القول مما نزه الله المذهب وأهله من ذلك، إلى أن قال: وقرأت لـ محمد بن جرير الطبري في كتاب سماه: التبصير، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم، وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى، فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة، ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة، لم يخص طائفة دون طائفة، فتبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول بعد أن ادعى على الطائفة ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم بمحله عند المخلصين، فكيف بابن أخته؟!].
القول برؤية الله في الدنيا قول باطل، وصادر من الصوفية وهو أبطل الباطل، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣].
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) فالقول برؤية الله في الدنيا من أبطل الباطل، ولا يستطيع أحد من الناس رؤية الله، ولما تجلى الله للجبل تدكدك وصعق موسى، وخر موسى صعقاً، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي ذر في صحيح مسلم لما قيل: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟) وفي لفظ: (رأيت نوراً)، وفي حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي لفظ: النار- لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:٥١]، فرؤية الله في الدنيا من أبطل الباطل، وهذا كلام الصوفية، وقد أجمعت الأمة قاطبة على أن الله لا يرى في الدنيا، إلا ما زعمته الصوفية، والصوفية عندهم تخريف، فقد كان بعضهم يقول إذا رأى الصدف: لا ندري لعل ربنا يكون في هذه الصدف! نسأل الله العافية، فقد أجمعت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا، وأجمعوا على أنه لم يره أحد في الدنيا، ولم يختلفوا إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أنه لم يره في الأرض، وإنما اختلفوا في رؤيته ليلة المعراج على قولين، والصواب: أنه لم يره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهذه الأحاديث التي سبقت، وإنما رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون، والذي تدل عليه النصوص، فكيف يقول هؤلاء الصوفية هذا الكلام؟! قال في ترجمة عبد الواحد بن زيد: [أما عبد الواحد بن زيد فهو عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصري حدث عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح من مشايخ الصوفية، صاحب وعظ رمي بالقدر، قال عنه الذهبي: وحديثه من قبيل الواهي عندهم، انتهى، توفي بعد الخمسين ومائة].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان من نسب إليه ذلك القول بعد أن ادعى على الطائفة ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم بمحله عند المخلصين، فكيف بابن أخته؟! وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولاً نسب إلى الجملة، كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولاً في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك، ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين.
يعني: مقصود ابن خفيف أن ما تكلم به الصوفية هذا لا ينسب إلينا، ونحن برآء منه، فهذا الكلام الذي يقوله لا نطلقه، فالإنسان إذا أتى بقول شاذ، لا ينسب إلى الصوفية، كما أن الفقهاء من تكلم منهم بالقول الشاذ لا ينسب إلى الفقهاء.
قال: [واعلم أن ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق ونازل ما هم عليه رجع عنهم خاسئاً وهو حسير].
أي: لهم إشارات تعرف في الخفاء، ولهم اصطلاحات وألفاظ خاصة بهم مثل: التحقيق، والإيقاع، والقبض، والبسط، والجمع، كل هذه ألفاظ الصوفية.
قال: [فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه، رجع عنهم خاسئاً وهو حسير، ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد، فقال: كثيراً ما يقولون: رأيت الله، وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل: هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته.
فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره العيون بتحديد العيان، ولكن رأته القلوب بتحقيق الإيقان، ثم قال: يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا].