[أهل التأويل وقولهم في الصفات]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما أهل التأويل فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها؛ ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم إتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك].
الشيخ: فهذا قول أهل الكلام، ويسمون أهل التأويل، وهم أهل التحريف من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين معاني النصوص، فقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤]، ولم يبين ذلك، بل وكلها إلى أهل العقول ممن يأتي بعده، الذين يتأملون وينظرون ويؤولون الكلام حتى يعرفون معناها الباطن، فقوله: (استوى)، مقصودها الاستيلاء، وأن العلماء بعد ذلك أتعبوا أذهانهم حتى استخرجوا المعاني الباطنية، فعرفوا أن معنى استوى: استولى، ومعنى اليد: القدرة وهكذا يتأولون.
وهذه تأويلات باطلة لنصوص الصفات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهوراً بخلاف هؤلاء، فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة وهم -في الحقيقة- لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا].
الشيخ: أي: الذين قصدنا الرد عليهم هم الجهمية والمعتزلة الذين يحرفون نصوص الصفات، ويقولون: معنى (استوى): استولى، أما أهل التخييل فالمعروف أنهم كفرة وملاحدة، والناس يعرفون عنهم ذلك، وإنما المصيبة في الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يحرفون نصوص الصفات وينطلي تحريفهم على كثير من الناس، ويظنون أنهم أهل الحق.
فالجهمية والمعتزلة تظاهروا بنصر السنة، ويقول الشيخ رحمه الله: وهم في الحقيقة: لا نصروا الإسلام ولا كسروا أهل الشرك، من الفلاسفة الملاحدة، فما كسروهم ولا ناظروهم ولا أبطلوا حججهم، ولا يعرف عن الجهمية والمعتزلة أن منهم عباد، وأنهم أهل الخشية وأهل التقى، ولا أيضاً استفيد منهم في ردهم على الفلاسفة، بل إنهم أخذوا عن الفلاسفة، فلا فائدة منهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات].
الشيخ: لما حرف الجهمية والمعتزلة فقالوا: استوى، معناها: استولى، وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]، معنى اليد: النعمة والقدرة، فدخل من هذا الباب الفلاسفة، وقالوا: إن البعث المراد به بعث الأرواح لا الأبدان، والصلاة ليست ما تفعلونه من ركوع وسجود وقيام، وإنما الصلوات الخمس خمسة أسماء: علي وفاطمة وحسن وحسين ومحمد، والصيام: كتمان سر المشايخ، والحج: السفر إلى الشيوخ والجنة: خيال لا حقيقة، عندما احتج عليهم الجهمية والمعتزلة أن ما يفعلونه حرام لا يجوز في التعامل مع نصوص الشرع، أجابوهم: كيف يجوز لكم أن تؤولوا النصوص ونحن لا يجوز لنا أن نؤول نصوص المعاد، إن كان التأويل حراماً علينا فهو حرام عليكم أيضاً، وإن كان جائزاً لكم فهو جائز لنا أيضاً، وبذلك تسلطوا عليهم وكانوا سبباً في فتح باب الكفر لهؤلاء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان، وقد علمنا الشبه المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد].
الشيخ: لما أول الفلاسفة نصوص البعث والمعاد والجنة والنار، رد عليهم الجهمية والمعتزلة، فقالوا: نحن نعلم بالاضطرار بدون الرسول أن المعاد ثابت، وأن الجنة والنار ثابتتان، فهذا أمر ضروري، لا جدال فيه.
فقال لهم أهل السنة: ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات الأسماء والصفات وأن هذه الأسماء ثابتة في جميع الكتب وأن الشبهة التي تدل على تأويلها باطلة.
فاحتجوا عليهم بمثل ما احتجوا هم به على الفلاسفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقولون لهم -أهل السنة-: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول صلى الله عليه وسلم وناظروه عليه؛ بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئاً منها أحد من العرب].
الشيخ: أي: نثبت الصفات فنقول: أولاً: إنها -أي نصوص إثبات الأسماء والصفات- أكثر من نصوص المعاد.
ثانياً: إن المشركين كانوا يقرون بها، وإنما كانوا ينكرون المعاد ولم ينكروها، فكيف يسوغ لكم أن تؤولوا الصفات، وهي في الكتب المنزلة أكثر من نصوص البعث والمعاد، ولم ينكرها أحد حتى من المشركين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، وكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به].
الشيخ: وهذا فيه رد على الجهمية والمعتزلة، فإذا كانت نصوص الصفات أكثر من نصوص البعث والوعيد فإن إقرار العقول بها سيكون أكثر من إقرارها بالوعد والمعاد، فكيف يسوغ لكم أن تؤولوا الصفات مع أن إقرار العقول بها أكثر، وأنتم تعترفون بأن نصوص البعث والمعاد لا يمكن أن تؤول، مع أن نصوص الصفات أكثر وإقرار العقول بها أكثر، فإذا كان لا يسوغ ولا يجوز تأويل نصوص المعاد، فلا يجوز من باب أولى تأويل نصوص الصفات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا مما حرف وبدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى].
الشيخ: أي: أن أهل الكتاب حرفوا التوراة والإنجيل وأنكر الله عليهم التحريف، ولم يذكر أنهم حرفوا الصفات، فلو حرفوا الصفات لأنكر الله عليهم، فإذا كان المشركون يقرون بالصفات، وأهل الكتاب يقرون بالصفات، فما الذي يدعوكم أيها المؤولون إلى تأويل الصفات، مع أن إقرار العقول بها أكثر، وقد أقر بها المشركون وأهل الكتاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو كان هذا مما حرف وبدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجباً منهم وتصديقاً].
الشيخ: كما في قصة الحبر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إننا نجد في التوراة أن الله يضع السموات على ذه - وأشار إلى أصبع - والأرضين على ذه والماء والثرى على ذه، والجبال على ذه، والشجر على ذه، خمسة أصابع، ثم يهزهن بيده فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر).
فأهل الكتاب مقرون بالصفات، وبذلك يكونون أحسن حالاً من الجهمية والمعتزلة في الإيمان بالصفات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجباً منهم وتصديقاً، ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة لأهل الإثبات].
الشيخ: فما عاب النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود في إثباتهم للصفات، كما تعيب نفاة الصفات أهل السنة في إثباتهم للصفات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك].
الشيخ: فما عابهم بإثبات الصفات، ولا سماهم مجسمة ولا مشبهة، وإنما عابهم بالكفريات التي كانوا يقولونها والتنقص الذي نسبوه إلى الرب سبحانه كقولهم: (إن الله فقير) أو (يد الله مغلولوة).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل عابهم بقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:٦٤]، وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:١٨١]، وقولهم: استراح لما خلق السموات والأرض، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:٣٨]، والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن، فإذا جاز أن نتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني: مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه باطل فالأول أولى بالبطلان].
الشيخ: أي: إذا كانت الصفات هي المتفق عليها في التوراة والإنجيل، وانفرد القرآن بالبيان للمعاد، وأقررتم أنه لا يجوز تأويل المعاد، وهو مما انفرد به القرآن فمن باب أولى ألا يجوز تأويل الصفات.