[ضلال المبتدعة بتفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن هؤلاء المبتدعة، الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:٧٨]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة].
إذاً: فالسبب أنهم قرروا في أنفسهم أن النصوص لا تدل على الصفات، فقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤]، لا يدل على صفة الاستواء، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:٢]، لا يدل على صفة العلم والحكمة، هذا هو قصدهم، فلما قرروا هذا الأمر صاروا تجاه نصوص الصفات بين أمرين: الأمر الأول: أن يصرفوها إلى معان ابتدعوها من عند أنفسهم: يقولون: استوى معناها: استولى.
والأمر الثاني: التصوير، يقولون: نصورها ولا ندري ما معناها، مع أننا نجزم بأنها لا تدل على إثبات الصفات، فهم بين طريقة التصوير وبين طريقة التأويل والتحريف، نسأل الله العافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات].
قوله: بالسمع أي: بالأدلة السمعية، كفروا بالنصوص واعتمدوا على عقولهم الفاسدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه.
فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله].
أي: ظنوا أن السلف قوم سذج، لا يفهمون إلا مجرد التلاوة فقط، وليس عندهم عقول يفهمون بها النصوص ويعرفون بها اللغة، بل يؤمنون بمجرد اللفظ، فلهذا قالوا: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وعندهم أن طريقة السلف هي التفويض، وطريقة الخلف هي التحريف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون لاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وأقروا على نفوسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي].
هذا كله من كلام الرازي، وانظر السير والفتاوى وطبقات الشافعية، وفيه زيادة، ثم قال: وأقول من صميم القلب، من داخل الروح: إني مقر بأن كل ما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه.
يقول شيخ الإسلام تعليقاً على عبارته التي جاءت في النص: [وهو صادق فيما أخبر به، أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفة، سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلاً ولا يروي غليلاً، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره!] انتهى من منهاج السنة.
[ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وهأنذا أموت على عقيدة أمي].
هذه مقالة أبي محمد الجويني وهو من الأشاعرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام].
أشار شيخ الإسلام في موضع إلى أن قائل هذا الكلام هو أبو حمزة الغزالي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضولون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان.
من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة].
وبه قاموا: أي عملوا بالكتاب وتلوه ونفذوه، وطبع الكتاب بهم، والكتاب قام بهم بمدحهم والثناء عليهم، وبهم نطق أي: بفضلهم، وبه نطقوا أي: تلوه وعملوا به.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لاسيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم، أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!].