للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كلام الحارث المحاسبي في أن الأخبار التي فيها ذكر الأسماء والصفات لا يدخلها النسخ]

قال المؤلف رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي، في كتابه المسمى: (فهم القرآن) قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ، وأن النسخ لا يجوز في الأخبار قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وأسمائه وصفاته يجوز أن ينسخ منها شيء].

هذا الكلام فيه فائدة: وهي أن الأخبار لا يدخلها النسخ، إنما النسخ يدخل على الأوامر والنواهي، أما الأخبار فلا يدخلها النسخ، فمثلاً ما أخبر الله عن قصص الأنبياء وقصص المنافقين، هذا لا يدخله النسخ؛ لأنه أخبار، والنسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي، فإذا أمر الله بأمر، أو نهى عن شيء، فإنه قد ينسخ للتخفيف، مثل: (نهى النبي عن الشرب قائماً، ثم شرب قائماً)، فهذا قد يقال إنه نسخ، لكن هنا يمكن الجمع بينهما بأن النهي محمول على التنزيه، والفعل محمول على الجواز.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له، ولا يتكلم، ولا كلام كان منه، وأنه تحت الأرض، لا على العرش، جل وعلا عن ذلك].

أي: أن هذه الأخبار لا يمكن أن تنسخ بعد أن أخبر الله بها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا عرفت ذلك واستيقنته؛ علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز].

أي: ستعلم أنه يجوز النسخ على الأوامر والنواهي دون الأخبار.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس:٩٠] الآيات، وقال تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:٣١]، وقال: قد تأول قوم أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار؛ لأنه آمن عند الغرق، وقالوا: إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه، وقال: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:٩٨]، وقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:٤٥]، ولم يقل بفرعون.

وقال: وهكذا الكذب على الله؛ لأن الله تعالى يقول: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:٢٥]].

فهذه شبهة وضعها بعض الملاحدة بعد أن تأولوا الآيات، فقالوا: إن فرعون مؤمن، ولن يدخل النار؛ لأن الله يقول: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:٩٢]، فقالوا: هذه نجاة من النار، بدليل أنه آمن، فالله قد قال عنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس:٩٠]، وقالوا: أما قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦]، فهو خطاب لآل فرعون وهو لا يدخل معهم.

وهذا من أبطل الباطل، فهو أول من يدخل مع آل فرعون، فكما أن آل إبراهيم أول من يدخل فيهم وعلى رأسهم إبراهيم عليه السلام، فكذلك آل فرعون على رأسهم فرعون، وأما النجاة المذكورة في الآية، فهي نجاة من الغرق في البحر حتى يراه الناس: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:٩٢]، وليس المراد بها النجاة من النار كما زعموا.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:٣]، فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علماً بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر عليه أن يصنعه -تجده ضرورة-].

يعني: لا يمكن أن يخلق الشيء إلا إذا تقدم العلم به، أي: يسبق الخلق علم بالمخلوق.

فالمراد أن الله سبحانه سبق علمه بالأشياء قبل كونها، والإنسان مثلاً إذا لم يعلم عن شيء فلا يمكن أن يكونه، فلو قيل لك مثلاً: اصنع سيارة من كذا وكذا، وأنت لم تر سيارة من قبل، ولا علمتها، ولا سبق في ذهنك شيء عنها، فلا يمكن أن تصنعها، فلا بد أن يسبق علمك بشيء، فالله تعالى خلق الأشياء التي سبق علمه بها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، قال: وإنما قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:٣١]، إنما يريد: حتى نراه فيكون معلوماً موجوداً].

وهذا هو علم الظهور، أي: يظهر علمه سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:٣١]، يعني: حتى نعلمه موجوداً وظاهراً، وإلا فقد علمه قبل ذلك سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوماً من قبل أن يكون، ويعلمه موجوداً كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معدوماً موجوداً وإن لم يكن، وهذا محال].

وهذا لا يمكن؛ لأنه جمع بين النقيضين، والجمع بين النقيضين محال، وذلك بأن يعلم الشيء موجوداً معدوماً في نفس الوقت.

والمراد أن الله تعالى سبق علمه بالأشياء قبل كونها، ولا يقال: سبق علمه بالعدم، أي: علمه معدوماً، ثم علمه موجوداً.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر كلاماً في هذا في الإرادة، إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:١٥]، ليس معناه: أن يحدث له سمعاً، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعاً حادثاً في ذاته، فذهبوا إلى أن ما يعقل من الخلق أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت.

وكذلك قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:١٠٥]، لا يستحدث بصراً محدثاً في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكوناً، كما لم يزل يعلمه قبل كونه].

<<  <  ج: ص:  >  >>