[بيان رأي الجويني في آيات الصفات]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتاب الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب].
يعني: ظواهر النصوص وآيات الكتاب كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤]، وقوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)، هل تؤول أو لا تؤول؟ وأبو المعالي الجويني من متأخري الأشاعرة، وهو الذي تكلم في مسألة الاستواء وقرر نفي استواء الرب على عرشه بين تلاميذه، حيث يقول: إن الرب كان قبل أن يخلق العرش وهو الآن على ما كان، وقصده بذلك إنكار الاستواء، فلما أكثر من هذا قام إليه أحد تلاميذه وقال: يا أستاذ! دعنا من هذا الكلام، لكن كيف ندفع هذه الضرورة على المسلم؟ ما قال أحد قط: يا الله! إلا اتجه إلى العلو وجهه وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني والهمداني هذا هو من تلاميذه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال في كتاب الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب].
وهؤلاء هم الأشاعرة والمعتزلة والجهمية، أما أهل السنة فلم يؤولونها، بل أجروها على ظاهرها، وأمروها كما جاءت، كما قال الإمام أحمد رحمه لله.
قال: [فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب].
وهذا غلط، فإن أئمة السلف يفوضون الكيفية ولا يفوضون المعاني.
أما مذهب المفوضة فقال بعض العلماء عنهم: المفوضة أشر من الجهمية، فالمفوضة يقولون: لا نعرف المعنى، بل هي حروف تجري على اللسان ولا يعرف معناها، وهذا غلط، فإن الله تعالى أمر بتدبر القرآن، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:٨٢] وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:١٧]، ولم يقل: لا تفسروها ولا تدبروها فإنها غير معلومة المعنى، بل قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:٢٩]، فقوله ذاك إنما قاله ظناً منه أن السلف يفوضون المعنى، مثل ما قال النووي رحمه الله في صحيح مسلم: مذهب الخلف التأويل، ومذهب السلف تفويض المعنى، وهذا غلط، إذ ليس من مذهب أهل السنة والجماعة تفويض المعنى، بل عندهم تفويض الكيفية، والمعنى معلوم كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم -أي: في اللغة العربية- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب.
قال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها].
شيخ الإسلام ينقل هذه النصوص ليبين أن مذهب السلف وأهل السنة والجماعة هو إثبات الصفات وتفويض الكيفية، ونقل الشيخ كلام أبي المعالي ولم يرد عليه، فيحمل كلام أبي المعالي في تفويض المعنى على أن المقصود معنى الكيفية، لكن المعروف من أبي المعالي غير ذلك، ولهذا فهذا إشكال من نقل الشيخ رحمه الله هذا الكلام ضمن نقولات العلماء في إثبات مذهب السلف.
قال: [وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الله عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب، فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٧]، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:١٤]، وما صح من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا].