مِنْ خلالِ النظرِ في الأقوالِ وما استدلوا به، يظهر لي رجحان القولِ الثالثِ القائل: إنْ كانَ القولُ الثالث رافعًا لما اتفق عليه القولانِ السابقانِ، لم يجزْ إحداثُه، وإنْ لم يرفع القولُ الثالثُ ما اتفق القولانِ السابقانِ، جازَ إحداثُه؛ وذلك للآتي:
أولًا: مراعاة هذا القول للإجماعِ الضمني الظنِّي الذي دلَّ عليه اختلافُ أهلِ العصرِ الأولِ.
ثانيًا: أنَّ أدلةَ المانعين لا تقوى على القولِ بمنعِ إحداثِ القولِ الثالثِ، ولا سيما القول الذي لا يرفع ما اتفق عليه أصحاب العصرِ الأولِ.
ثالثًا: أنَّ عملَ بعضِ السلفِ - كابنِ سيرين - مؤيّدٌ للقولِ الثالثِ المفصِّلِ في المسألةِ، إضافةً إلى اختيارِ جمعٍ مِنْ محققي الأصولِ له.
وأنبّه إلى ضرورةِ التثبّت في ادِّعاءِ أنَّ مجتهدي العصرِ الأول قد اختلفوا في المسألةِ على قولين - أو ثلاثة أقوال - فقط، لأنَّ هذه الدعوى تتضمّن منعَ أهلِ العصرِ اللاحقِ مِنْ مخالفةِ القدرِ المشتركِ بين القولين.
• سبب الخلاف:
بالنّظرِ إلى المسألةِ بأقوالِها وأدلتِها، يظهرُ لي أنَّ الخلافَ في مسألةِ:(حكم إحداثِ أهلِ العصرِ اللاحق قولًا ثالث) عائدٌ إلى جعلِ اختلافِ مجتهدي العصرِ على قولين إجماعًا منهم على انحصارِ الصواب في أقوالِهم:
فمَنْ قال: إنَّ اختلافَ مجتهدي العصرِ على قولين إجماعٌ منهم على انحصارِ الصوابِ في أقوالِهم، مَنَعَ إحداثَ قولٍ ثالثٍ، وهذا ما ذَهَبَ إليه أصحابُ القولِ الأولِ.
ومَنْ قال: ليس في اختلافِ مجتهدي العصرِ على قولين إجماعٌ على انحصارِ الصوابِ في أقوالِهم، جوَّزَ إحداثَ قولٍ ثالثٍ، وهذا ما ذَهَبَ إليه أصحابُ القولِ الثاني.