للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتحدّثَ الشيخُ محمدٌ الطاهرُ بنُ عاشور عن أثرِ المناظراتِ والجدلِ على نشأةِ عِلْمِ أصولِ الفقهِ، فقالَ: "إِن علومَ الشريعةِ لما دُوِّنتْ وهُذِّبَتْ، وظَهَرَ المجتهدون الذين دُوِّنَتْ مذاهبُهم، نَشَأَ الخلافُ والجدلُ في الاحتجاجِ والمناظرةِ بين الفقهاءِ، فتولَّدَ مِن العقولِ قواعدُ نظريةٌ في الجدلِ تفرّعت تدريجيًا حتى صارتْ عِلْمًا يُعَبّرُ عنه بعلمِ أصولِ الفقهِ ... " (١).

وبعدَ استقرارِ قواعدِ أصولِ الفقهِ صارت هذه القواعدُ عمدةً لأصحابِ المناظراتِ" ليصحّح كلٌّ مِن المتناظرين مذهبَ إِمامِه، وليُثْبِتْ بناءَه على أصولٍ صحيحةٍ، وطرائق قويمةٍ (٢).

ولم يُؤَثِّر القولُ بإِغلاقِ بابِ الاجتهادِ على شيوعِ المناظراتِ، بلْ إِنَّ الأمرَ سارَ على العكسِ؛ إِذ إِنَّ المناظراتِ قد شاعتْ وانتشرتْ في العصورِ الَّتي قيل فيها بإغلاقِ بابِ الاجتهادِ شيوعًا كبيرًا (٣).

وكانت العلومُ الَّتي يتناظرُ فيها العلماءُ متعددة، ويأتي على رأسها: علمُ الفقهِ وعلمُ أصولِ الفقهِ، بمختلفِ مسائل هذين العلمين (٤).

وإِذا كان الأصلُ في المناظراتِ أنْ تقومَ بين أرباب المذاهب الفقهيةِ المختلفةِ؛ لأنَّ الدافعَ لها تباينُ المذاهبِ (٥)، فإِنَّ هذا الأمرَ لم يكَن مانعًا


(١) أليس الصبح بقريب (ص/ ٤٠). وانظر: ظاهرة الانتصار للمذهب عند القاضي عبد الوهاب للدكتور محمد المصلح، بحوث الملتقى الأول: القاضي عبد الوهاب المالكي (٥/ ٣٥٩).
(٢) انظر: بلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ ٩).
(٣) انظر: تاريخ الجدل لمحمد أبو زهرة (ص/ ٢٩٨)، وتاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري (ص/ ٣٣٤).
(٤) انظر: المعيار المعرب للونشريسي (٦/ ٣٨٧ وما بعدها)، وتاريخ الفقه الإِسلامي لمحمد السايس (ص/ ١٣٢)، وتاريخ الفقه الإِسلامي للدكتور أحمد الحصري (ص/ ٢١١)، ومقدمة تحقيق القواعد للمقري (١/ ٣٨)، والمدرسة الفقهية المالكية بالعراق للدكتور عبد المنعم التمسماني، بحوث الملتقى الأول: القاضي عبد الوهاب المالكي (١/ ٤٥٩)، والمدخل للفقه الإسلامي للدكتور حسن الشاذلي (ص/ ٢٩٠)، وتاريخ التشريع للدكتور أحمد العلياني (ص/ ٢١١).
(٥) انظر: المدرسة الظاهرية بالمغرب للدكتور توفيق الإِدريسي (ص/ ٨٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>