للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وممَّا يدلُّ على أثرِ القضاءِ وغيرِه مِن المناصب في بقاءِ المذهبِ: ما قاله أبو الوفاءِ بنُ عقيلٍ عن علماءِ المذهب الحنبَلي: "هذا المذهبُ إنَّما ظَلَمَه أصحابُه! لأنَّ أصحابَ أبي حنيفةَ والشَافعي إذا بَرِعَ واحدٌ منهم في العلمِ، تولَّى القضاءَ وغيرَه مِن الولاياتِ، فكانت الولايةُ سببًا لتدريسِه واشتغالِه بالعلمِ، فأمّا أصحابُ أحمدَ، فإنَّه قلَّ فيهم مَنْ تعلّقَ بطَرَفٍ مِن العلمِ إلا ويخْرِجُه ذلك إلى التعبّدِ والتزهُّدِ؛ لغَلَبَةِ الخيرِ على القومِ، فينقطعون عن التشاغلِ بالعلمِ" (١).

ويقولُ شاه ولي الله الدهلوي: "أيُّ مذهبٍ كان أصحابُه مشهورين، وسُدَّ إليهم القضاءُ والإفتاءُ، واشتهرتْ تصانيفُهم في الناسِ، ودرسوا درسًا ظاهرًا: انتشرَ في أقطارِ الأرضِ، ولم يزل ينتشر كلِّ حينٍ، وأيُّ مذهبٍ كان أصحابُه خاملين، ولم يُولَّوا القضاءَ والإفتاءَ، ولم يرغبْ فيهم الناسُ: اندرس مذهبُهم بعد حينٍ" (٢).

وقد كان بعضُ الناسِ يرغبُ في المذهب الذي أُسنِد إلى أربابِه منصبُ الإفتاءِ؛ طمعًا في أمثالِ هذه المناصبِ، ويَبيّن الشيخُ عبدُ القادر ابن بدران إعراضَ بعضِ المتمذهبين عن المذهبِ الذي لا تُوجد له مواردُ مالية، كالمذهبِ الحنبلي في وقتِه، فيقول: "أصابَ هذا المذهبَ ما أصاب غيرَه مِنْ تشتتِ كتبِه حتى آلتْ إلى الاندراسِ، وأكبَّ الناسُ على الدنيا، فنظروا فيها، فإذا هو - أي: المذهب الحنبلي - منهلُ سُنّةٍ، وفقهٌ صحيحٌ، لا مورد مالٍ، فهجره كثير ممَّنْ كان متبعًا له؛ رجاءَ قضاءٍ أو وظيفةٍ ... " (٣).

ويقولُ الشيخُ محمدٌ الحجوي: "كم مِنْ عالمٍ في الشامِ وغيرِها أُريد


(١) نقل كلامَ ابن عقيل ابنُ رجب في: الذيل على طبقات الحنابلة (١/ ٣٤٨)، وابنُ بدران في: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص/ ١١٠). وانظر: المدخل لدراسة الفقه الإسلامي لمحمد محجوبي (ص/ ٢١٢)، والمدخل إلى دراسة المذاهب للدكتور عمر الأشقر (ص/ ٢٠٤).
(٢) حجة الله البالغة (١/ ٤٦٧).
(٣) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص/ ٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>