عليه الأمر، فإن المفتى به صحة الاستئجار على تعليم القرآن، لا على تلاوته، ثم إن أكثر المصنفين الذين جاؤوا بعده تابعوه على ذلك ونقلوه، وهو خطأ صريح، بل كثير منهم قالوا: إن الفتوى على صحة الاستئجار على الطاعات، ويطلقون العبارة، ويقولون إنه مذهب المتأخرين، وبعضهم يفرع على ذلك صحة الاستئجار على الحج.
وهذا كله خطأ أصرح من الخطأ الأول، فقد اتفقت النقول عن أئمتنا الثلاثة: أبى حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن الاستئجار على الطاعات باطل، لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج والترجيح، فأفتوا بصحته على تعليم القرآن للضرورة، فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال وانقطعت، فلو لم يصح الاستئجار وأخذ الأجرة لضاع القرآن، وفيه ضياع الدين لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب، وأفتى من بعدهم أيضاً من أمثالهم بصحته على الأذان والإمامة، لأنهما من شعائر الدين، فصححوا الاستئجار عليهما للضرورة أيضاً فهذا ما أفتى به المتأخرون عن أبى حنيفة وأصحابه، لعلمهم بأن أبا حنيفة وأصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك، ورجعوا عن قولهم الأول.
وقد أطبقت المتون والشروح والفتاوى على نقلهم بطلان الاستئجار على الطاعات إلا فيما ذكر، وعللوا ذلك بالضرورة، وهي خوف ضياع الدين، وصرحوا بذلك التعليل، فكيف يصح أن يقال إن مذهب المتأخرين صحة الاستئجار على التلاوة المجردة مع عدم الضرورة المذكورة، فإنه لو مضى الدهر ولم يستأجر أحد أحدا على ذلك لم يحصل به ضرر، بل الضرر صار في الاستئجار عليه، حيث صار القرآن مكسباً وحرفة يتجر بها، وصار القارئ منهم لا يقرأ شيئاً لوجه الله تعالى خالصاً، بل لا يقرأ إلا للأجرة، وهو الرياء المحض الذي هو إرادة العمل لغير الله تعالى، فمن أين يحصل له الثواب الذي طلب المستأجر أن يهديه لميته" (١).