للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ والتقدير: اتخذوا العجل إلها (٥).

ودليل الحذف فيها أن مطلق اتخاذ العجل لا يستوجب غضب الله وإذلاله إياهم، فقد يكون اتخاذه للأكل وهذا حلال لا معصية فيه، فتعين أن يكون اتخاذهم العجل معبودا من دون الله؛ لذلك استحقوا هذا الوعيد الشديد ....

أما الداعى البلاغى الذى اقتضى هذا الحذف فهو ذو دلالة عميقة ولطيفة، حاصلها أن اتخاذ العجل إلها ينبغى أن لا يكون عقيدة قوم، وألا يكون معمولا للاتخاذ حتى فى مجرد اللفظ، فحذفه من الكلام رمز لطيف على استبعاده من الوجود.

ومن مواضع هذا الإيجاز فى القرآن الكريم قوله تعالى:

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦).

فى الآية الكريمة موضعان للإيجاز بحذف الكلمة المفردة، يظهران من التقدير الآتى:

خلطوا عملا صالحا بسيئ، وآخر سيئا بصالح ودليل الحذف هنا عطف وَآخَرَ سَيِّئاً على خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً إذ ليس المقصود أنهم خلطوا عملا بآخر سيئ، بل المراد أن لهم عملين:

* عمل صالح خلطوه بسيئ أقل منه، وعمل سيئ خلطوه بقليل من الصلاح ولو كان المراد المعنى الأول لقيل: خلطوا عملا صالحا بآخر سيئ. فدل العطف على المحذوف فى الموضعين.

أما الداعى البلاغى للحذف فى الموضعين فلتحقيق فضيلة الإيجاز، وهو استثمار أقل ما يمكن من الألفاظ، فى أكثر ما يمكن من المعانى. وفى ذلك يقول ابن مالك فى ألفيته:

وحذف ما يعلم جائز كما ... تقول زيد بعد من عندكما

ومن هذا النوع من الإيجاز فى كتابه العزيز قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٧)،ففي الآية الكريمة إيجاز بحذف كلمة «البرد» بعد كلمة الْحَرَّ والتقدير: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر والبرد (٨).

ودليل الحذف أن هذه السرابيل فى الواقع تحمى الناس من الحر والبرد معا، وإنما أوتر


(٥) أنوار الربيع (٣/ ٧٢).
(٦) التوبة (١٠٢).
(٧) النحل (٨١).
(٨) أنوار الربيع (٣/ ٧٢).