عنى بتحقيق هذه المسألة كثير من العلماء، ومن أشدهم عناية بذلك الأصوليون والمفسرون، أما الأولون فلأن بحثهم فى مجالهم يقوم على الاستدلال بألفاظ القرآن الكريم على الأحكام الشرعية، وأما الآخرون فلأن البحث فى ذلك يساعدهم على فهم المعنى المراد من الآيات القرآنية.
واستقراء ما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب فى ضوء مطابقة ألفاظ النازل لأفراد السبب من حيث التعميم أو التخصيص ينكشف عن أربع صور عقلية، لأن اللفظ النازل إما عام وإما خاص، والسبب الذى نزل عليه اللفظ إما عام وإما خاص كذلك، فتنتج هذه الصور التى نذكرها فيما يلى:
أولا: قد يكون سبب النزول عاما، واللفظ الذى نزل عاما كذلك، ولا إشكال فى هذه الصورة، لأن الحكم الوارد فى الآية عام، وهو ثابت لكل أفراد السبب العام بطريق النص، وهذا محل اتفاق بين العلماء نظرا للتطابق بين اللفظ والسبب.
مثال ذلك: ما ورد فى سبب نزول قول الله تبارك وتعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة/ ٢٢٠.
فعن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال:
«لما أنزل الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- الإسراء/ ٣٤ - وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية- النساء/ ١٠ - انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل:
ثانيا: قد يكون سبب النزول خاصا واللفظ الذى نزل فى شأنه خاصا كذلك، وهذا مثل سابقه لا إشكال فيه كذلك، لأن الحكم الخاص الوارد فى الآية ثابت للفرد الخاص الذى نزل فى شأنه، وذلك للتطبيق
(٤٨) هذا الحديث أخرجه أبو داود فى سننه: ك: الوصايا، ب: مخالطة اليتيم، حديث/ ٢٨٧١.