للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإعجاز البيانى فى القرآن الكريم]

[١ - الإعجاز فى العصر النبوى:]

لم تكن كلمة الإعجاز بمعناها البلاغىّ معروفة فى عصر النبوة، ولكنّ المعنى اللغوى الذى يدل على عدم تمكن أحد من البلغاء أن يأتى بمثل ما جاء به القرآن كان مؤكّدا وملموسا، لأن القرآن الكريم قد فاجأ العرب بأسلوب لا عهد لهم به، فظلّوا حائرين يلمسون سحره الخالب دون أن يستطيعوا معارضته وقد تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة من مثله، فبذلوا قصارى جهدهم فى ذلك فما استطاعوا، وهم بعد فرسان البلاغة وأئمة الكلام.

لقد فاجأهم القرآن بنمط من القول المعجز لا عهد لهم به، فهو وإن تألّف من كلماتهم وحروف لغتهم فإنه ينصبّ فى قالب متفرّد يدركون حلاوته ويحسّون روعته دون أن يستطيعوا محاكاته. وكان عهدهم بالكلام الجيّد أن يصوغه شاعر فصيح منهم، فيهبّ المنافسون لمعارضته واحتذائه فيقعوا منه قريبا، أو يسبقوه ظافرين بأحسن مما قال.

فما بالهم يتحداهم القرآن أن يأتوا بعشر آيات من مثله فتضطغن نفوسهم غضبا حين يدركهم البهر فلا يستطيعون (١).

إنّ العهد بصاحب الأسلوب المتميز من ذوى الفصاحة أن يكون تميّزه الاستقلال غير منقطع الصلة بما قبله تماما، فهو وإن أتى بالجديد المستطرف فإنّه يمتّ بأقرب الوشائج إلى سلف قريب قد احتذاه بدءا ثم تفوّق عليه، أما أن تنقطع الصلة تماما بين ما يسمعون وما جاءوا به من قبل فى الشعر والخطب والوصايا الجاهلية فهذا ما كان موضع الدهشة والانبهار.

وهذا النبىّ الذى نزل عليه الوحى، يأتى بالقول المبين فى حديثه وخطبه، ولكنّ أسلوبه فى الحديث والخطب يبتعد ابتعادا شاسعا عن أسلوب الوحى المنزل. فدلّ ذلك دلالة قاطعة على أن القرآن نمط إلهى ليس فى طوق البشر محاذاته. ولو جاز لأحد من بلغاء البشر أن يأتى بمثله لكان رسول الله وهو أفصح العرب قاطبة أحقّ أن يكون هذا الذى يستطيع! أمّا أن يوجد هذا الفرق الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوى فهو الدليل القاطع على أن القرآن من عند الله.


(١) البيان القرآنى للدكتور محمد رجب البيومى ص ١٥ ط الدار المصرية اللبنانية للنشر سنة ٢٠٠٠ م.