معرفة سبب النزول من الأمور التى لا تقبل اجتهادا بحال من الأحوال، لأن ما ترتبط به هذه الأسباب من ملابسات ليس افتراضا عقليا يقوم على ضرب الأمثال، بل هى أحداث ووقائع حدثت بالفعل فى أوقات محدودة وفى ظروف معينة وملابسات معروفة، وفى مثل هذه الأحوال لا مجال للوقوف على معرفتها إلا بنقل واضح عمن عاصر هذه الأحداث، وشاهد تلك الملابسات.
ومن ثم فإن العلماء قد قرروا أن المرجع فى معرفة أسباب النزول يتحتم أن يكون عن طريق النقل الصحيح عن صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين عاصروا الوحى، وعايشوا التنزيل، ووقفوا على الأحداث والوقائع التى أحاطت بما نزل من آيات القرآن الكريم على سبب، كما أنهم سمعوا من الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم ما لم يسمعه غيرهم.
من أجل ذلك تعين أن ينفرد هؤلاء بكونهم المرجع فى معرفة أسباب النزول، وعليه فإنه لا مجال لعمل العقل فى هذا الأمر، اللهم إلا أن يكون فى إطار ما ورد من أسباب النزول، ونقل عن الصحابة وتعدد فى الحادثة الواحدة، فإن عمل العقل عندئذ يتمثل فى محاولة الترجيح بين الروايات، أو الجمع بينها فيما ظاهره التعارض منها.
ولأن معرفة أسباب النزول يترتب عليها فى مجال التشريع أمور هامة تعميما، أو تخصيصا، أو إثباتا، أو نفيا، فإن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد احتاطوا لهذا الأمر أشد الحيطة، فلم يقولوا فى شىء مما قالوه برأى أو اجتهاد، ولكنهم قرروا أسباب النزول وأخبروا بها، مستندين إلى قرائن تحتف بقضايا هذه الأسباب وأحداثها. ومع هذا فإنهم ضاعفوا هذه الحيطة عند ما حددوا الألفاظ التى عبروا بها عما أخبروا من أسباب النزول تحديدا واضحا، فإذا كان الصحابى لا يقطع- بناء على ملابسات وقرائن تعيّن ما يخبر به- بأن سبب آية ما هو هذا الحدث بعينه، فإن تعبيره عن سبب النزول يتضح فيه ذلك، فنراه لا يجزم بما قال، بل يقول: أحسب أن هذه الآية نزلت فى كذا، ونحو ذلك.