للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقوله: لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وتقدير المحذوف هو «قلنا لهم» (٤).

ودليل الحذف- هنا- هو سياق الكلام، لأن قوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فيه التفات إلى الخطاب من الغيبة، ففي صدر الآية كان الكلام حديثا عن مشهد من مشاهد يوم القيامة، وهو عرض العباد على الله وكان الحديث عنهم بطريق الغيبة وَعُرِضُوا ثم التفت من هذه (الغيبة) إلى خطابهم: لَقَدْ جِئْتُمُونا فلزم تقدير محذوف بين الغيبة والخطاب وهو: قلنا لهم، أو: نقول لهم.

والتركيب المحذوف هنا جملة فعلية.

أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية، فهو إحكام النظم بحذف فضول الكلام؛ لأن التحول فيها من الغيبة قرينة قوية على إدراك التركيب المحذوف، لأنه لا يستقيم النظم إلا بتقدير التركيب المحذوف، الذى قد اقتضاه طرفا الكلام، وأرشدا إليه حتى لكأنه مذكور فى الكلام صراحة.

ومن الإيجاز بحذف التركيب الواحد، أو الجملة فى القرآن الكريم قوله تعالى:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥).

وموطن الحذف فى الآية بين قوله تعالى:

فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وتقدير المحذوف هو:

«ألستم ظالمين» (٦) - وهو جملة اسمية ودليل الحذف هو قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن الآية مسوقة مساق الإنذار والتهديد، وتعقيب الكلام ينفى هداية الله القوم الظالمين تلويح لهم بأنهم ظالمون بكفرهم بكتاب الله. وليس فى الآية ذكر لقوم ظالمين ينسحب عليهم هذا الوعيد، فدل ذلك على أن المخاطبين هم المعنيون بهذا الوعيد إن لم يوقنوا بما أنزل الله على خاتم رسله.

أما الداعى البلاغى للحذف فى الآية، فهو القصد إلى لين الخطاب فى الدعوة، وتجنب تيئيس المخاطبين من رحمة الله، فلم يواجههم بأنهم هم الظالمون وأخرج الكلام مخرج العموم، حتى لكأن الظالم هو غير المخاطبين.

وفى ترك المواجهة لهم بأنهم هم الظالمون، الذين لا يهديهم الله إفساح المجال لهم، لمن أراد أن يؤمن منهم، ولا نزاع فى أن بعضهم آمن واهتدى بعد فتح مكة المكرمة. فتأمل


(٤) فتح القدير للإمام الشوكانى (٣/ ٣٤٦).
(٥) الأحقاف (١٠).
(٦) معجم المصطلحات البلاغية (١/ ٣٥٤).