هذه الآية تتحدث عن رجل أو صنف من الناس كانوا يقفون عقبة كئودا فى وجه الدعوة، ويستجلبون بدائل عنها يلهون بها الناس عن سماع دعوة الحق، ويفرون هم منها فرار الحمر المذعورة من الأسد الهصور. هذه هى القضية، فكيف صورها التشبيه القرآنى للناس، فى كلمات صغار ذوات معان كبار.
تعال معى لنرى ونتذوق: صورها أولا:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً والتولى هو الفرار أو الهروب السريع، ثم بين علة هذا الهروب والفزع، وهى الاستكبار، وجعل الاستكبار حالا منه، يعنى هرب يطير به استكباره الخادع. ومن أى شىء هرب مسرعا؟ من آيات الله الهادية إلى سبيل أقوم.
هذا التصوير كان كافيا فى رسم شخصية هذا الخصم الألد، لكن القرآن يخطو بنا خطوة أخرى عن طريق التشبيه فيقول:
كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها شبه حاله فى عدم التأثر بهدى الله، وهو يتلى عليه بحال من لم يسمع تلك الآيات الهاديات. ووجه الشبه هو انعدام الإحساس بما يتلى.
ومن دقائق هذه الصورة إيثار (أن) المخففة من الثقيلة (أنّ) لأن هذا الإيثار أتاح حذف ضمير الشأن من (أن) مضافا إلى تخفيف (أن) من التشديد. فكان فى هذين (التخفيف وحذف ضمير الشأن) إسراع إلى وصف هذا الصنف من الناس بعدم السماع، وفى هذا ذم لهم وتسجيل سريع عليهم بالإعراض عن دعوة الحق.
والمشبه والمشبه به أمران معنويان: انعدام التأثر، وفقد القدرة على السماع. ووجه الشبه هو شدة التبلد فى كل منهما ثم جاء التشبيه الثانى كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً كاشفا، وشارحا لفقد القدرة على السماع فى التشبيه الأول، مع زيادة تأصيل للصمم الذى حل بالمعرضين عن دعوة الحق، فقد أصيبت أذناه بآفة عطلت وظيفتهما فكأنهما- أعنى أذنيه- غير موجودتين.
فتأمل كيف بنى التشبيه الفكرة تصاعديا، حتى وصل بها الذروة فى المعنى المراد: