الشارع وإثبات حكم، ومثل هذا لا يحل لمسلم أن يقول فيه إلا بيقين.
فمن قال فى شىء: إنه منسوخ؛ فقد أوجب ألا يطاع هذا الأمر الصادر عن الله أو عن رسوله صلّى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن نسقط طاعة أمرنا بها الله- تعالى- ورسوله إلا ببرهان.
وفى هذا يقول ابن الحصار: (إنما يرجع فى النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو عن صحابى يقول: آية كذا نسخت كذا.
وقال: ولا يعتمد فى النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح.
ثم قال: والناس فى هذا بين طرفى نقيض؛ فمن قائل: لا يقبل فى النسخ أخبار الآحاد العدول، ومن متساهل يكتفى فيه بقول مفسر أو مجتهد، والصواب: خلاف قولهما) (٥).
وتوضيح ذلك: أنه لا سبيل إلى معرفة نسخ آية أو حديث بغير أحد وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: النص الصريح الصحيح بأن هذا الأمر ناسخ لكذا، أو أمر صريح بترك الأمر الأول.
مثاله: قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ البقرة: ١٤٣.
ثم قوله: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها.
فهذا دليل واضح على أن القبلة التى كانت قبل هذه منسوخة.
ومثل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة:١٨٧.
فهذا النص صريح فى نسخ النهى عن الوطء فى ليل رمضان على رأى من قال بالنسخ.
الوجه الثانى: إجماع الأمة بلا خلاف يعتد به على أن أمر كذا منسوخ.
ومن المعلوم أن الإجماع يستند دائما إلى دليل.
الوجه الثالث: تعارض الأدلة المتساوية تعارضا تاما مع معرفة الأمر المتقدم زمنا من المتأخر، وتفصيل المسألة: أن النصين إما أن يتعارضا من جميع الوجوه، أو من وجه دون وجه، فإن تعارضا من وجه دون وجه جمع بينهما. وإن تعارضا من جميع الوجوه فإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا، أو كان أحدهما
(٥) انظر الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى ج ٣ ص ٨١ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.