للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما النسخ إلى غير بدل فقد وقع فيه الخلاف بين الأصوليين، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه.

ومن المانعين له الشافعى رضي الله عنه، وهو أول من وضع علم الأصول على الراجح من أقوال المؤرخين.

فقد قال فى «الرسالة» (١٣): (وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة، وكل منسوخ فى كتاب وسنة هكذا).

ومن المجوزين له: الآمدى فهو يقرر فى كتاب «الإحكام» (١٤) أن مذهب الجميع جواز نسخ حكم الخطاب لا إلى بدل خلافا لمن شذ منهم.

واستدل على وقوعه بأدلة كثيرة، وضرب لذلك أمثلة من القرآن، منها:

(أ) قوله تعالى فى سورة المجادلة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ آية: ١٢.

ثم نسخ حكمها فى الآية التى بعدها، دون أن يأتى بتكليف آخر يحل محل التكليف الأول، وذلك فى قوله جل شأنه: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ آية: ١٣.

(ب) ونسخ الله الاعتداد بحول كامل فى حقّ المتوفّى عنها زوجها، بقوله تعالى:

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة: ٢٤٠.

وقد كانت أربعة أشهر وعشرا، كما فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً البقرة آية: ٢٣٤.

(ج) ونسخ وجوب ثبات الرجل لعشرة فى القتال فقال: جل شأنه أولا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الأنفال: ٦٥.

ثم قال بعدها مباشرة: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.

إلى آخر ما قال.

(د) ونحن إذا نظرنا إلى خلاف العلماء حول النسخ إلى غير بدل وجدناه فى الحقيقة


(١٣) ص ٣٢٨.
(١٤) انتهى بتصرف وإيضاح من الإحكام فى أصول الأحكام ج ٣ ص ١٩٥.