للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود، كما أنك إذا قلت: مالك تمنع أخاك؟

كنت منكرا المنع لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول فى هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت، إلا لأن فى حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه». (٤٨)

هذا التحليل لا يملكه إلا باحث ذوّاق مثل عبد القاهر، وقد جاء بعده من حاولوا أن ينهجوا فى الحديث عن أبواب المعانى من حذف وذكر وتقديم وتأخير وغيرها، لكنهم لم يرزقوا موهبته، فكتبوا كثيرا مما اعترض عليه، هذه ناحية.

- أما الناحية الثانية فإن الاهتمام بالآية والآيتين كلمات وحروفا؛ دون نظر إلى الموضوع جميعه، والارتباط الوثيق بين الآيات المتصلة؛ جعل النظر جزئيا لا كليّا، وقد آن لنا أن ننظر إلى النص باعتباره وحدة متماسكة دون أن نقتصر على الجملة والجملتين، والآية والآيتين.

- وأبرز من اهتدى إلى طريقة الجرجانى هو: الزمخشرى فى (كشافه) مع الفرق بين أسلوب الأديب وترسّله عند عبد القاهر، وأسلوب العالم ودقّته- ولا أقول كزازته- عند الزمخشرى، على نحو ما سأشير إليه الآن.

الزمخشرى: إذا كان عبد القاهر قد اختار من آيات الكتاب المبين ما يكشف عن منحاه البيانى، ويخدم قضية الإعجاز التى سمّى كتابه بها، فإن الزمخشرى قد فسّر القرآن كله آية آية ليسير فى ضوء عبد القاهر وإن لم يعترف بذلك فلم يذكر اسمه صريحا بين أسماء من حشرهم فى مقدمة الكتاب، وقد اكتفى بإشارة بعيدة إلى بيت شعر قاله، والعجب أن يشير إليه شاعرا دون أن يشير إليه فاتحا أهم ميادين البيان! وهذا يتطلب التعليل ..

نعرف أن الزمخشرى كان معتزليّا، وقد بذل جهده فى تعضيد مذهبه، حين تعرض لتفسير الآيات المتصلة بعلم الكلام وقد مثّلت لذلك فيما كتبته عنه فى كتابى (خطوات التفسير البيانى) وأرى من ضيق المقام أن أتجاوز ذلك إلى نقول تدلّ على حسن ذوقه، وقوة استشفافه البيانى مع ما تدل عليه من منهجه الأسلوبى إذ جعل التقرير البيانى فى هيئة سؤال وجواب كأن يقول فإن قلت ... ،

قلت. وهى طريقة لا ينفسح معها مجال الإشباع الأدبى، كما اتسع أمام عبد القاهر.

ومما نختاره من دلائل نفاذه فى التفسير البيانى، ما ذكره فى تأويل قول الله عز وجل:

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها


(٤٨) دلائل الإعجاز ص ١٢٥.