العجز، فيأتى بالمعنى نفسه فى صورة أخرى جديدة، فيدهش السامعون لهذا التكرار الطريف، مع أنّه تكرار. وقد خفى هذا المراد على الملاحدة ومن لا نفاذ لهم فى أسرار العربية، فزعموا المزاعم السخيفة مع أنّهم وأشباههم قد عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله.
وخلص الرافعى إلى تحليل الأسلوب القرآنى، فحصر جهات النظم فى ثلاث. هى الحروف والكلمات والجمل، وخصّ كل جهة بفصل شاف مشفوع بالأدلة الكاشفة، والجديد بها أكثر من أن يحصر. وقد باهى الرافعى بما اهتدى إليه، ولم يلتفت ناقدوه إلى ما اختاره من أمثلة لم تكن من مختارات سابقيه، ممّا يجعلنى أؤكد أن كتاب الرافعى هو الثانى فى بابه بعد كتاب «دلائل الإعجاز» لأن الكتابين اجتمعا فى خاصية واحدة، لم يشركهما فيها مشارك، وهى روعة البيان الأسلوبى وتدفق التحليل.
ومن الجديد الذى اهتدى إليه الرافعى من بارع الأفكار المضيئة فى أفق الإعجاز نستشهد بهذه السطور:« .. كل من يبحث فى تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة، وتأتى حكمة الأشياء، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام العربى وتاريخه، إنما كان توطيدا له، وتهيئة لظهوره، وتناهيا إليه ودربة لإصلاحهم به، وليس فى الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنق منظرا وأبدع مظهرا، وأمدّ سببا إلى النفس، وأردّ عليها بالعافية، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى فى أرضهم فرعا، وأقوم فى سمائهم شرعا، وأوفر فى أنفسهم ريعا، وأكثر فى سوقهم شراء وبيعا، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأىّ شىء فى تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية تنتهى بمعجزة لغوية، وتأتى بها على أكمل الوجوه وأحسنها، ثم يكون الدين والعلم والسياسة، وسائر مقومات هذه الأمة مما تنطوى عليه المعجزة، فتخرج به للدهر أمة كان عملها فى الأمم صورة من تلك المعجزة»(٤).
وهذا الوجه من النشأة اللغوية للأمة العربية قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراه الرافعى إعجازا للقرآن الكريم، إذ نشأ فى أمّة هذه مقدرتها اللغوية لتكون قادرة على استيعابه، وهى فى الوقت نفسه عاجزة عن الإتيان بمثله، وأنا أرى أن هذه النشأة ليست