هو شاعر صغير، فهل رأيتم أحدا تتكافأ فيه قوة التفكير، وقوة الوجدان، وسائر القوى النفسية على حد سواء، واذا كانت الإجابة بالنفى فكيف تطمع من إنسان أن يهب لك الطّلبتين معا، وهو لم يجمعهما فى نفسه على حد سواء، وما كلام المتكلم إلا صورة الحال الغالبة عليه من تلك الأحوال.
هذا مقياس تستطيع أن تتبين به كل إنسان، وحكم أى القوتين كان خاضعا لها، حين قال وكيّف، فإذا رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية، أو وصف طريقة عملية، قلت:
هذه ثمرة الفكرة، وإن رأيته يعتمد إلى تحريض النفس أو تغييرها وقبضها وبسطها، واستثارة كوامن لذاتها وآلامها، قلت: هذه ثمرة العاطفة، فإذا رأيته انتقل من أحد هذين الضّربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطرا من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت ذلك من تعاقب الشعور والتفكير على نفسه، فأمّا أنّ أسلوبا واحدا يتجه اتجاها واحدا، ويجمع بين يديك هذين الطرفين معا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أزهارا وأثمارا وأوراقا معا، وكما يسرى الروح فى الجسد، والماء فى العود الأخضر، فذلك ما لا نظفر به فى كلام بشر، ولا هو من سنن الله فى النفس الإنسانية، فمن لك بهذا الكلام الذى يحى من الحقيقة البرهانية الصارمة بحيث يرضى حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، وبين المتعة الوجدانية بحيث يرضى هؤلاء الشعراء المرحين. ذلك الله رب العالمين، فهذا الذى لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معا بلسان واحد، وأن يخرج الحقّ والجمال معا يلتقيان فلا يبغيان، وهذا هو ما تجده فى كتابه الكريم حيثما توجهت، ألا تراه فى نسجه قصصه وأخباره لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة، ألا تراه وهو فى معمعة براهينه وأحكامه، لا ينسى حظ القلب من تشويق وترقيق، وتحذير وتنفير، يبث الله ذلك فى مطالع آياته، ومقاطعها وتضاعيفها.
وثالثة هذه الخصائص القرآنية لدى الدكتور دراز هى ما حصره الباحث فى (خطاب العامة والخاصة)(١٨) إذ هذان الخطابان يمثلان غايتين أخريين متباعدتين عن الناس، فلو أنّك خاطبت الأذكياء بالواضح المكشوف الذى تخاطب به الأغبياء، لنزلت بهم إلى مستوى لا يرضونه فى الخطاب لأنفسهم، ولو أنّك خاطبت العامة باللمح والإشارة لجئتهم من ذلك بما لا تطيقه