للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(وقال مرّة: فوّض إلىّ عبدى) فإذا قال:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل، فإذا قال:

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، قال: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل» (١٧).

وفى تلك الدراسة القيمة التى أعدها الشيخ الطاهر بن عاشور عن إعجاز القرآن وعن كونه كلام الله وليس كلام بشر، يضرب أمثلة عديدة لشهادة بعض عتاة الكفر قبل أن يسلموا مثل الوليد بن المغيرة- وقد أوردنا له فيما سلف وصفا للقرآن- ومثل عتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وغيرهم. وكان الوليد بن المغيرة يذهب متخفيا بليل إلى بيت النبى صلّى الله عليه وسلّم ليتسمع تلاوة الرسول للقرآن الكريم- وكذلك يفعل أقرانه دون أن يخبر أحدهم زميله للغرض نفسه- فلما استمع الوليد إلى قراءة النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «والله ما هو بكاهن، وما هو بزمزمته ولا سجعه، وقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر».

وكذلك فعل أنيس بن جنادة الغفارى أخو أبى ذر حين اتجه إلى مكة ليسمع من النبى صلّى الله عليه وسلّم ليخبر أخاه أبا ذرّ بما سمع، وكان أبو ذر مشوقا إلى سماع خبر عن القرآن من مصدر يثق به، وعن محمد الذى يتنزل عليه هذا القرآن، فعاد أنيس إلى أخيه ليخبره بما سمع فقال: «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر- أى طرقه- فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان واحد بعدى أنه شعر». فأسلم أنيس وأبو ذر (١٨)، وكان من شأن أبى ذر ما كان من اقترابه من رسول الله، ومن

حب رسول الله له ما قد امتلأت به كتب السيرة والصحاح من كتب الحديث.

لقد برع العرب حين نزول القرآن فى فنون الأدب التى كان الشعر أهمها شأنا وأخطرها أثرا، كانت لهم الفصاحة فى الخطب والأمثال والمحاورات، فجاء القرآن بأسلوب جديد صوغا ومحتوى صالحا لأغراض الحياة كلها تضمن الجديد من أغراض فنون القول جميعا: الخطابة والحوار والجدل والقصص والرواية والأخبار عن الأولين وضرب الأمثال وتربية المجتمع الإسلامى تربية رفيعة تصلح شأنه فى الدنيا وتسعد مصيره فى الآخرة.

لقد آمن العرب جميعا بإعجاز القرآن لأنه كلام الله، كما اعترفوا بعجزهم من محاكاته أو الإتيان بآية واحدة من مثله على النحو الذى فصلناه فيما سلف من قول؛ ولكن فريقا ممن دخلوا فى الإسلام، أكثرهم من غير العرب- وإن كان الإسلام لا يفرق بين عربى وأعجمى- أطلقوا على أنفسهم «أهل العدل» وعرفوا بالمعتزلة، اخترعوا فرية حول إعجاز القرآن الكريم أطلقوا عليها «الصّرفة» ومعناها أن القرآن ليس معجزا بذاته ولكن سبب إعجازه أن الله صرف العرب عن أن ينشئوا مثله، وهو رأى فاسد، ومذهب قبيح،


(١٧) تفسير التحرير والتنوير: المقدمة العاشرة صفحة ١٠٨.
(١٨) المصدر السابق صفحة ١١٤.