للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم بعد هذه الآيات المضيئة يضرب الله المثلين لأعمال الكفار فى آيتين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً إلى آخر الآية. والمعنى: أن أعمال الكفار التى يعملونها فى الدنيا بحسبانها أعمالا صالحة نافعة لهم فى الآخرة، لن تجدى فتيلا، فهى كالسراب الذى يظنه الظمآن ماء وهو ليس بماء بل ليس بشيء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أى حسابه على كفره بربه.

والآية الثانية أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها والمعنى، أن أعمال الكفار لا تنفعهم، بل إنها كظلمات كثيفة فى بحر عميق مائج هائج يعلوه سحاب، فإن تراكم طبقات الموج مع طبقات السحاب يحجب الضياء، حتى إن الكافر لا يكاد يرى كفه إذا أخرجها. وليس أشد ظلمة من ظلمة الموج لمن مارس الأسفار فى البحار والمحيطات، وهذا التشبيه العجيب فى نظر الإنسان، وبخاصة إنسان عصر المبعث، حقيقة مخيفة، وأما فى العصر الحديث فقد حملت بحارا غير مسلم إلى الإيمان بالله بعد أن قرأ الآية الكريمة فى ترجمة لمعانى القرآن خاصة بعد أن عرف أن محمدا لم يجرب ارتياد البحار القريبة فضلا عن عبور المحيطات التى تحدث فيها هذه الظاهرة.

لقد ختم الله الآية الكريمة- وعمادها وصف كلمة البحار والمحيطات- بقوله عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وذلك تعقيبا على ظلام عمل الكفار.

وفى اجتهاد بعض المفسرين لهاتين الآيتين:

أن الله ضرب المثل الأول لعمل صالح قام به الكافر فمثل له بالسراب الخادع، وضرب الثانى ومثل له بالظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض لاعتقاده السيئ وذلك فى الختام الرائع وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٨)

إن من المبهر فى السنن الإلهية فى المثلين المتتاليين سالفى الذكر حيال تصوير أعمال الكفار أنهما قد سبقا بآيتى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وفِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وأنهما أتبعتا بثلاث آيات إيمانية تسبح له فى أولاها- السموات والأرض، والطير السابحات الصافات بين السماء والأرض- وتفرد الآية الثانية أن لله ملك السموات والأرض، وتشرح الآية الثالثة قدرة الخالق على خلق السحاب ومراحل تكوينه حتى يصير ركاما ينزّل الغيث


(٨) صفوة التفاسير ٢/ ٣٤٨ - سورة النور آية ٤٠.