بعض أرباب العربية في الأبواب الأدبية، (ثمّ جعل) أي الله سبحانه وتعالى (الذّمّ لهم بتسميتهم) أي بتسميته إياهم (جاحدين) أي منكرين عنادا (ظالمين) أي بوضع التكذيب موضع التصديق (فَقَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: ٣٣] فحاشاه) أي نزهه سبحانه وتعالى (من الوصم) أي العيب وهو بسكون الصاد وضبط في حاشية بكسر الصاد وهو وهم لأنه حينئذ وصف لا مصدر ولا وجه له هنا، (وطوّقهم) أي الزم أطواقهم في أعناقهم (بالمعاندة) أي بسبب المناظرة على وجه العناد (بتكذيب الآيات) متعلق بالمعاندة (حقيقة المعاندة) منصوب على المفعول الثاني لطوق وفي بعض النسخ حقيقة للظلم أي تحقيقا للظلم، (إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: ١٤] ) أي تعديا وتكبرا ونصبهما على العلة لجحدوا والجملة بينهما معترضة بالحالية لا يقال إن الجحد بمعنى الإنكار في الماضي مطلقا كما هو مقرر في علم التصريف فوجود العلم يؤخذ من جملة واستيقنتها لأنا نقول الجحد في اللغة هو الإنكار مع العلم كما صرح به صاحب القاموس ففي الآية تجريد أو تأكيد ثم حاصل كلام المصنف رحمه الله تعالى أن الجمع بين الأمرين وهو نفي تكذيبهم وإثبات جحدهم أنهم كانوا غير مكذبين له بقلوبهم فإنهم يعلمون صدقه في كل قضية ولكنهم جحدوا بناء على عنادهم كما تدل عليه الآية الثانية وهذا تأويل حسن ومسلك مستحسن ويصححه ما روي إِنَّ الْأَخْنَسَ بْنَ شُرَيْقٍ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحَكَمِ أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا غيري وغيرك فقال له وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش وقيل وجه ثان في الجمع بينهما وهو أن يكون معنى الآية إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لما أصروا على تكذيبك مع ظهور المعجزات الخارقة على وفق دعواك لم يكذبوك وإنما كذبوني أنا وهذا كما يقول القائل لرجل أهان عبدا له أنك لم تهن عبدي وإنما اهنتني وهنا وجه ثالث وهو أن الظالمين ما خصوك بالتكذيب بل عم تكذيبهم لسائر المرسلين ويلائمه ما ذكره المصنف بقوله (ثمّ عزاه) بتشديد الزاء أي سلاه وصبره (وآنسه) بالضبطين أي سكنه وأزال وحشته (بما ذكره عمّن قبله) أي من الأنبياء (ووعده النّصر) أي على الأعداء (بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: ٣٤] الآية) يعني فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ. (فمن قرأ لا يكذبونك بالتّخفيف) وهو نافع والكسائي، (فمعناه لا يجدونك كاذبا) فهو من باب ابخلته وجدته بخيلا (وقال الفرّاء) بتشديد الراء وهو الإمام النحوي اللغوي الكوفي مات سنة سبع ومائتين في طريق مكة ولم يكفه يعمل الفرو ولا يبيعها وإنما قيل له ذلك لأنه يفري الكلام أي يصنعه ويأتي بالعجب منه (والكسائيّ) بكسر الكاف لأنه كان ملتفا بكساء