للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتوصلاً إلى غايات المعاني (١) ، وتوسلاً، وإقداماً على الأسود في غابها، وإرغاماً لأعاديه بمنع رغابها، يتوقد ذكاء وفطنة ويتلهب، ويتحدر سيله ذاكرةً وحفظاً ويتصبب، ويتدفق بحره بالجواهر كلاماً، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المسرعة (٢) نظاماً، ويقطر كلامه فصاحةً وبلاغةً، وتندى عبارته انسجاماً وصياغة، وينظر إلى غيب المعاني من ستر رقيق، ويغوص في لجة البيان فيظفر بكبار اللؤلؤ من البحر العميق؛ استوت بديهته وارتجاله، وتأخر عن فروسيته من هذا الفن رجاله، يكتب من رأس قلمه بديهاً، ما يعجز تروّي القاضي الفاضل أن يدانيه تشبيهاً، وينظم من المقطوع والقصيدة جوهراً، ما يخجل الروض الذي باكره الحيا مزهراً، صرف الزمان أمراً ونهيا، ودبر الممالك تنفيذاً ورأيا، ووصل الأرزاق بقلمه، ورويت تواقيعه وهي إسجالات حكمه وحكمه، لا أرى أن اسم الكاتب يصدق على غيره ولا يطلق على سواه:

لا يعمل القول المكرّ ... ر منه والرأي المردّد

ظنٌّ يصيب به الغيو ... ب إذا توخّى أو تعمد

مثل الحسام إذا تأل ... ق والشهاب إذا توقّد

كالسيف يقطع وهو مس ... لولٌ ويرهب حين يغمد ولا أعتقد أن بينه وبين القاضي الفاضل من جاء مثله؛ على أنه قد جاء مثل تاج الدين ابن الأثير ومحيي الدين ابن عبد الظاهر وشهاب الدين محمود وكمال الدين بن العطار وغيرهم، هذا إلى ما فيه من لطف أخلاق وسعة صدر وبشر محيا؛ رزقه الله أربعة أشياء لم أرها اجتمعت في غيره. وهي: الحافظة، قلما طالع شيئاً إلا كان مستحضراً لأكثره، والذاكرة التي إذا أراد ذكر شيء من زمن متقدم كان ذلك حاضراً كأنه إنما مر به بالأمس، والذكاء الذي تسلط


(١) الوافي: المعالي.
(٢) الوافي: المتسرعة.

<<  <  ج: ص:  >  >>