فإن الحاضر عند الحسّ الذي لا تلتفت اليه النفس لا يكون مدركا، أجيب بأن الادراك ليس حضور الشيء عند الآلة فقط بل حضوره عند المدرك لحضوره عن الآلة بأن كان ما به يدرك الآلة بأن يكون حاضرا مرتين.
احداهما: عند المدرك، والأخرى عند آلته.
فالنفس هو المدرك ولكن بواسطة الحضور عند الآلة ان كان ما به يدرك الآلة والحضور عند المدرك علم من قوله: هو أن يكون حقيقة متمثلة عند المدرك، والحضور عند الآلة علم من قوله: يشاهدها ما به يدرك والشيء المدرك أما نفس المدرك كعلمنا بذاتنا أو غيره، وهو إما غير خارج عنه كعلمنا بوجودنا أو خارج عنه، وهو إما مادي كالأجسام، أو غير مادي كالعقول والنفوس المجرّدة فهذه أقسام أربعة. الأولان منها: ادراكهما بحصول نفس الحقيقة عند المدرك الأول: بدون الحلول، والثاني: بالحلول. والأخيران لا يكون ادراكهما بحصول نفس الحقيقة الخارجية بل بحصول مثال الحقيقة، سواء كان الإدراك مستفادا من الأمور الخارجية ويسمى هذا بالعلم الانفعالي وهو المستفاد من الوجود الخارجي كما توجد أمرا مثل الأرض والسماء ثم تصوّره. أو الخارجية مستفادة من الإدراك، ويسمّى هذا بالعلم الفعلي، وهو أن يكون سببا للوجود الخارجي كما تتصور مثل السرير مثلا ثم توجده، فالفعلي ثابت قبل الكثرة، والانفعالي بعدها. أي العلم الفعلي كلّي تتفرع عليه الكثرة وهي افراده الخارجية التي استفيد هو منها.
والثالث: ادراكه بحصول صورة منتزعة من المادة مجرّدة عنها. والرابع: لم يفتقر إلى انتزاع من المادة ضرورة كونه غير مادي. فقوله: تمثل حقيقة الشيء عند المدرك متناول للجميع، يقال:
تمثّل كذا عند كذا إذا حضر منتصبا عنده بنفسه أو بمثاله. فالانتصاب بنفسه يتناول الأوّلين، وبمثاله يتناول الأخيرين. وقوله عنده أعم من أن يكون بالحلول فيه أو في آلته، أو بدون الحلول. فإن الحضور عند المدرك يشملها وبالمعنى الأخير قسمه الشيخ الرئيس (١) في الإشارات إلى تصوّر ساذج أي مجرّد من التصديق، وإلى تصوّر مع التصديق ان كان اذعانا، أي إدراكا على
(١) هو الحسين بن عبد الله بن سينا الفيلسوف صاحب التصانيف ولد في احدى قرى بخاري ونشأ وتعلم فيها وتولى الوزارة في همذان، وكان من القرامطة الباطنيين في رأي بعض المؤرّخين، وقيل بأنه تاب في آخر أيامه وكان حنفي المذهب، ورأس الفلاسفة المسلمين صنف الكثير في الطب والمنطق والطبيعيات ولادته ووفاته (٣٧٠ - ٤٢٨ هـ / ٩٨٠ - ١٠٣٧ م) من مؤلفاته كتاب «الاشارات والتنبيهات في المنطق والحكمة» ترجم له، ابن خلكان، وفيات الأعيان،٢/ ١٥٧؛ ابن كثير، البداية والنهاية،١٢/ ٤٢؛ ابن حجر، لسان الميزان في ٢/ ٢٩١؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة،٥/ ٢٥؛ ابن العماد، شذرات الذهب،٣/ ٢٣٤؛ حاجي خليفة، كشف الظنون،١/ ٩٤؛ البغدادي، ايضاح المكنون،٢/ ٥٥٥؛ الزركلي، الاعلام،٢/ ٢٤١؛ كحاله، معجم المؤلفين في ٤/ ٢٠ وعلى كتابه الاشارات شروح كثيرة.