والسلف من الصحابة والتابعين كان اهتمامهم الأول والأخير منصبا على القرآن والحديث، فهل كانوا عندما يتلون القرآن ويعلمونه، ويروون السنة ويتناقلونها ويحدثون بها، يفرقون بين آية وآية، وحديث وحديث؟ ويقولون للناس: هذه آمنوا بألفاظها مجردة، وهذه لا مانع من فهم معانيها؟ ومعلوم أنه كان يتلقى ذلك عنهم أصناف الناس وطبقاتهم. إن المتواتر عنهم - - رضي الله عنه - أنهم لم يكونوا يفرقون بين نصوص الصفات وغيرها، بل كانوا يردون على المعطلة وأهل الكلام ما كانوا يخوضون فيه من ذلك، ولذلك قالوا: أمروها كما جاءت، وواضح أن قصدهم الرد على هؤلاء النفاة، ولو كان قصدهم التفويض الذي أراده المتأخرون النفاة لقالوا - موضحين - أمروا ألفاظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، ولو كان الأمر كذلك لكان نفي الكيف عنها مع مثل هذا القول لغو.
على أن شيخ الإسلام يشير في سياق مناقشته لهذه الدعوى إلى ناحية مهمة في منهج السلف وتعاملهم مع النصوص ربما غفل عنها من يتصدى لمثل هذا الموضوع - وهي تدل على ما حبا الله هذا الإمام من فهم قوي وبصر نافذ وإطلاع واسع - وذلك أنه ذكر أن عبارة: تمر كما جاءت، أو نحوها، قد قالها الإمام أحمد في غير أحاديث الصفات، وإذا ثبت هذا بطل احتجاج هؤلاء الذين يدعون أن قصد السلف من ثمل هذه العبارة: تفويض نصوص الصفات.
يقول شيخ الإسلام عن الإمام أحمد وغيره - بعد بيانه أنهم لم يقولوا بأن القرآن لا يفهم معناه، وإنما قالوا كلمات صحيحة، مثل: أمروها كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية: "ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك. وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت (١) ،
(١) انظر مثلا قوله عن الحرورية والمارقة لما سئل عنهم هل يكفرون أو يرى قتالهم؟ قال: "اعفني من هذا، وقل كما جاء فيهم في الحديث". مسائل الإمام أحمد لابن هاني (٢/١٥٨) ، رقم (١٨٨٤) .