وأصبح خبرًا بعد عين. والذي قدر الله له النجاة من هذا التراث ينبئ عن قساوة الفادحة وعظم المصيبة، من خلال ما ضمه من نقول واقتباسات من الأسفار التي ضاعت في خضم الأهوال. فأصبحنا لا نعرف عنه شيئًا إلا هذه النقول التي في بطون الكتب التي سلعت من الهلاك.
ولعل أعظم من مُني به التراث الإسلامي الزاخر هو دخول جحافل التتار بغداد، التي زحفت من المشرق لتهلك الحرث والنسل، وتعيث في الأرض الفساد، فدخلت دار السلام في منتصف القرن السابع وأشعلت النيران في دار الحكمة وغيرها، فالتهمت النيران أكداس الكتب، وتصاعدت ألسنة النيران لتبلغ عنان السماء فتظلم بغداد بدخان الكتب الكثيف، الذي أشبه بثوب الحداد على المصاب الأليم الفقيد الغالي. وألقى الغزاة أكداسًا أخرى من الكتب في دجلة لتصبح جسورًا يعبرون عليها. فانقلب ماء دجلة العذب الرقراق إلى لون القطران من سواد مداد الكتب. وقد أجمع المؤرخون على أنه لم يمر على الأمة الإسلامية يوم فيه من الأهوال ما كان في يوم دخول التتار بغداد.
قال ابن الأثير في الكامل:"فلو قال قائل إن العالم منذ أن خلق الله أدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صدقًا، وما فعله بختنصر باليهود من القتل وتخريب بيت المقدس فبينه وبين فعل التتار بون شاسع، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وفعل الدجال عند ظهوره يهون عن فعلهم. فقد قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، وقد استطار شررهم وعم ضررهم".