و (ماتت زوجته) في سنة ٩٦ فحزن عليها حزنا كثيرا، ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية وعمل على قبرها مقاما ومقصورة وستورا وفرشا وقناديل ولازم قبرها أياما كثيرة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسو والقهوة والشربات. واشترى مكانا بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتا صغيرا وفرشه وأسكن به أمها، ويبيت به أحيانا. وقصده الشعراء بالمراثي، فيقبل منهم ذلك ويجيزهم عليه. ورثاها هو بقصائد وجدتها بخطه بعد وفاته في أوراقه المتشتة، على طريقة شعر مجنون ليلى».
وساق الجبرتى ست مقطعات للزبيدى في رثائها ثم قال: «ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها وأحرزت ما جمعه من مال وغيره. ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام وكثرت عليه الوفود من سائر الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية، لزم داره واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الأغراض، وترك الدروس والإقراء واعتكف بداخل الحريم وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهرة، وأرسل إليه مرة أيوب بيك الدفتردار مع نجله خمسين إردبا من البر، وأحمالا من الأرز والسمن والعسل والزيت وخمسمائة ريال نقود وبقج كساوى أقمشة هندية وجوخا وغير ذلك فردها، وكان ذلك في رمضان، وكذلك مصطفى بيك الإسكندرانى وغيرهما، وحضرا إليه فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما ورجعا من غير أن يواجهاه.
ولما حضر حسن باشا على الصورة التي حضر فيها إلى مصر لم يذهب إليه، بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به، وقدم له حصانا معدودا مرخنا بسرج وعباءة، قيمته ألف دينار، أعده وهيأه قبل ذلك. وكانت شفاعته عنده لا ترد، وإن أرسل إليه إرسالية في شيء تلقاها بالقبول والإجلال وقبّل الورقة قبل أن يقرأها ووضعها على رأسه ونفذ ما فيها.
وأرسل مرة إلى أحمد باشا الجزار مكتوبا وذكر له فيه أنه (المهدى المنتظر) وسيكون له شأن عظيم، فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني، ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الأحراز والتمائم، فكان يسير بذلك إلى بعض من يرد عليه ممن يدعى المعارف في الجفور والزايرجات ويعتقد صحته بلا شك. ومن قدم عليه من جهة مصر وسأله عن المترجم فإن أخبره وعرّفه أنه اجتمع به وأخذ