للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في سنة ٩٤ فأجاب ثم امتنع، وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق. وطار ذكره في الآفاق، وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية، وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة، وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الحلقة عظيمة الجثة، يشبه رأسها رأس العجل، وأرسلها إلى أولاد السلطان عبد الحميد فوقع لهم موقعا، وكذلك أرسلوا إليه من طيور الببغا والجواري والعبيد والطواشية، فكان يرسل من طرائف الناحية إلى الناحية المستغرب ذلك عندها، ويأتيه في مقابلتها أضعافها. وأتاه من طرائف الهند وصنعاء واليمن وبلاد سرت وغيرها أشياء نفيسة، وماء الكادى، والمربيات والعود والعنبر والعطر شاه بالأرطال، وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد.

وربما اعتقدوا فيه (القطبانية العظمى) حتى إن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجا ولم يزره ولم يصله بشئ لا يكون حجه كاملا، فإذا ورد عليه أحدهم سأله عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده، وحفظ ذلك أو كتبه، ويستخبر هذا عن ذاك بلطف ورقة، فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده فيقول له: فلان من بلدة كذا. فلا يخلو إما أن يكون عرفه من غيره سابقا، أو عرف جاره أو قريبه، فيقول له: فلان طيب؟ فيقول: نعم سيدي. ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته، ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح. فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئا إما موزونات فضة أو تمرا أو شمعا، على قدر فقره وغناه وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده. وقس على ذلك ما لم يقل.

وشرع في شرح (إحياء العلوم) للغزالي، وبيض منه أجزاء وأرسل منها إلى الروم والشام والغرب ليشتهر مثل شرح القاموس ويرغب في طلبه واستنساخه.

<<  <  ج: ص:  >  >>