وافتتح درسا آخر في مسجد الحنفي، وقرأ الشمائل في غير الأيام المعهودة بعد العصر، فازدادت شهرته، وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته، لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم. ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم، وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملى وكاتب الأسماء، فيقرأ لهم شيئا من الأجزاء الحديثية كثلاثيات البخاري أو الدارمي، أو بعض المسلسلات، بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده (وبناته ونسائه من خلف الستائر)، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات، واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك:«صحيح ذلك». وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق كما رأيناه في الكتب القديمة.
يقول الحقير: إني كنت مشاهدا وحاضرا في غالب هذه المجالس والدروس، ومجالس أخر خاصة بمنزله ويسكنه القديم بخان الصاغة، وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزهة مثل غيط المعدية (والأزبكية) وغير ذلك.
فكنا نشغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها، وهو كثير، بثبوت المسموعات على النسخ وفي أوراق كثيرة موجودة إلى الآن.
وانجذب إليه (بعض الأمراء الكبار) مثل مصطفى بيك الإسكندرانى، وأيوب بيك الدفتردار، فسعوا إلى منزله: وترددوا لحضور مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال، واشترى الجواري، وعمل الأطعمة للضيوف، وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة. وحضر عبد الرزاق أفندي الرئيس من الديار الرومية إلى مصر وسمع به، فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية.
ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده وأصعده إليه، وخلع عليه فروة سمور؛ ورتب له تعيينا من كلاره لكفايته، من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسائرة، وغلالا من الأنبار، وأنهى إلى الدولة شأنه، فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة وقدره مائة وخمسون نصفا فضة في كل يوم وذلك في سنة ١١٩١ فعظم أمره وانتشر صيته. وطلب إلى الدولة