ولم يزل المترجم يخدم العلم ويرقى في درج المعالي، ويحرص على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون، كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين. وألف في ذلك كتبا ورسائل ومنظومات وأراجيز جمة، ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا، تجاه جامع محرم أفندي، بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي، وذلك في أوائل سنة ١١٨٩، وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان، فأحدقوا به وتحبب إليهم واستأنسوا به وواسوه وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف، ويعظهم ويفيدهم بفوائد وتمائم ورقى، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب. فأقبلوا عليه من كل جهة، وأتوا إلى زيارته من كل ناحية، ورغبوا في معاشرته لكونه غريبا وعلى غير صورة العلماء المصريين وشكلهم، (ويعرف باللغة التركية والفارسية)، بل وبعض لسان الكرج، فانجذبت قلوبهم إليه، وتناقلوا خبره وحديثه.
ثم شرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة. وكل من قدم عليه يملى الحديث المسلسل بالأولية، وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه، ويكتب له سندا بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك.
ثم إن بعض علماء (الأزهر) ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة، فقال لهم:
لا بد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الاثنين والخميس تباعدا عن الناس، فشرعوا في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخونى، واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخونى إمام المسجد وخازن الكتب، وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيرها. وتناقل في الناس سعى علماء الأزهر مثل الشيخ أحمد السجاعى، والشيخ مصطفى الطائي، والشيخ سليمان الأكراشى وغيرهم للأخذ عنه، فازداد شأنه وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني فانتقل من الرواية إلى الدراية، وصار درسا عظيما، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضا وصار يملى على الجماعة بعد قراءة شيء من الصحيح حديثا من المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه ويتبعه (بأبيات من الشعر) كذلك، فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين.