أَفْضَلُ مِنْ الْعُزْلَةِ إنْ كَانَ لَا يَشْتَغِلُ فِي عُزْلَتِهِ إلَّا بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ انْفَتَحَ لَهُ طَرِيقُ عَمَلٍ بِالْقَلْبِ بِدَوَامِ ذِكْرٍ أَوْ فِكْرٍ فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِهِ أَلْبَتَّةَ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ تَنَزُّهِ الْعَالِمِ بِالْعِلْمِ فَهُوَ أَنِيسُهُ وَجَلِيسُهُ، وَقَدْ قَنِعَ بِمَا يَسْلَمُ بِهِ دِينُهُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الْحَاصِلَةِ لَا عَنْ تَكَلُّفٍ وَلَا عَنْ تَضْيِيعِ دِينٍ، وَارْتَدَى بِالْعُزْلَةِ عَنْ الذُّلِّ لِلدُّنْيَا وَأَهْلِهَا، وَالْتَحَفَ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَثِيرِ فَيَسْلَمُ دِينُهُ وَدُنْيَاهُ، وَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ يَدُلُّهُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَيُفَرِّجُهُ فِي الْبَسَاتِينِ، فَهُوَ يَسْلَمُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالسُّلْطَانِ وَالْعَوَامِّ بِالْعُزْلَةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ هَذَا إلَّا لِلْعَالِمِ، فَإِنَّهُ إذَا اعْتَزَلَ الْجَاهِلُ فَاتَهُ الْعِلْمُ فَتَخَبَّطَ.
وَقَالَ أَيْضًا: فَإِذَا عَرَفْت فَوَائِدَ الْعُزْلَةِ وَغَوَائِلِهَا تَحَقَّقْت أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا خَطَأٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إلَى الشَّخْصِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْخَلْطِ وَحَالِهِ وَإِلَى الْبَاعِثِ عَلَى مُخَالَطَتِهِ وَإِلَى الْفَائِتِ بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ، وَيُقَاسُ الْفَائِتُ بِالْحَاصِلِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الِانْقِبَاضُ عَنْ النَّاسِ مَكْسَبَةُ الْعَدَاوَةِ، وَالِانْبِسَاطُ لَهُمْ مَجْلَبَةٌ لِقُرَنَاءِ السُّوءِ، فَكُنْ بَيْنَ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ، وَمَنْ ذَكَرَ سِوَى هَذَا فَهُوَ قَاصِرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي الْحَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَاطَ أَفْضَلُ بِشَرْطِ رَجَاءِ السَّلَامَةِ مِنْ الْفِتَنِ، وَقَطَعَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ صَنَّفَ الْخَطَّابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابًا فِي الْعُزْلَةِ، وَفِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَالِطْ النَّاسَ وَزَايِلْهُمْ وَدِينَك لَا تُكَلِّمَنَّهُ قَالَ: الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ خَالِطْهُمْ بِبَدَنِك وَزَايِلْهُمْ بِقَلْبِك، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُدَارَاةِ وَقَدْ قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ» وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمُدَارَاةُ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَأَنَا أَقُولُ: هِيَ الْعَقْلُ كُلُّهُ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: لَيْسَ بِحَكِيمٍ مَنْ لَا يُعَاشِرُ بِالْمَعْرُوفِ مَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute