للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلٌ فِي الْعِنَايَةِ بِحِفْظِ الزَّمَانِ وَاتِّقَاءِ إضَاعَتِهِ]

ِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ الزِّيَارَاتِ وَغَيْرِهَا) قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَأَيْت الْعَادَاتِ قَدْ غَلَبَتْ عَلَى النَّاسِ فِي تَضْيِيعِ الزَّمَانِ فَهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فَلَا يَنْفَكُّونَ عَنْ كَلَامٍ لَا يَنْفَعُ وَغِيبَةٍ، وَأَقَلُّهُ ضَيَاعُ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانَ الْقُدَمَاءُ يُحَذِّرُونَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ الْفُضَيْلُ: أَعْرِفُ مَنْ يَعُدُّ كَلَامَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ وَدَخَلُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْ السَّلَفِ فَقَالُوا لَعَلَّنَا شَغَلْنَاك فَقَالَ: أُصْدِقُكُمْ كُنْت أَقْرَأُ فَتَرَكْت الْقِرَاءَةَ لِأَجْلِكُمْ، وَجَاءَ عَابِدٌ إلَى سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ فَرَأَى عِنْدَهُ جَمَاعَةً فَقَالَ صِرْت مُنَاخَ الْبَطَّالِينَ، ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَجْلِسْ، وَمَتَى لَانَ الْمَزُورُ طَمِعَ فِيهِ الزَّائِرُ فَأَطَالَ الْجُلُوسَ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ أَذًى.

وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ قَدْ قَعَدُوا عِنْدَ مَعْرُوفٍ وَأَطَالُوا فَقَالَ: إنَّ مَلِكَ الشَّمْسِ لَا يَفْتُرُ عَنْ سَوْقِهَا فَمَتَى تُرِيدُونَ الْقِيَامَ؟ وَمِمَّنْ كَانَ يَحْفَظُ اللَّحَظَاتِ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَيْسِيُّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أُكَلِّمُك فَقَالَ أَمْسِكْ الشَّمْسَ وَكَانَ دَاوُد الطَّائِيُّ يَسْتَفُّ الْفَتِيتَ وَيَقُولُ بَيْنَ سَفِّ الْفَتِيتِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ: قِرَاءَةُ خَمْسِينَ آيَةً.

وَأَوْصَى بَعْضُ السَّلَفِ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: إذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدِي فَتَفَرَّقُوا لَعَلَّ أَحَدَكُمْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي طَرِيقِهِ، وَمَتَى اجْتَمَعْتُمْ تَحَدَّثْتُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الزَّمَانَ أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضِيعَ مِنْهُ لَحْظَةٌ فَكَمْ يَضِيعُ لِلْآدَمِيِّ مِنْ سَاعَاتٍ يَفُوتُهُ فِيهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ مِثْلُ الْمَزْرَعَةِ، وَكَأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: لِلْإِنْسَانِ كُلَّمَا بَذَرْت حَبَّةً أَخْرَجْنَا لَك أَلْفًا، هَلْ تَرَى يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنْ الْبَذْرِ أَوْ يَتَوَانَى؟ وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى اغْتِنَامِ الزَّمَانِ الِانْفِرَادُ وَالْعُزْلَةُ مَهْمَا أَمْكَنَ وَالِاخْتِصَارُ عَلَى السَّلَامِ أَوْ حَاجَةٍ مُهِمَّةٍ لِمَنْ يَلْقَى، وَقِلَّةُ الْأَكْلِ فَإِنَّ كَثْرَتَهُ سَبَبُ النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَضَيَاعِ اللَّيْلِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ وَآمَنَ بِالْجَزَاءِ بَانَ لَهُ مَا ذَكَرْته.

<<  <  ج: ص:  >  >>