وَلَعَمْرِي إنَّ الصَّادِقَ مِنْهُمْ عَظِيمُ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا حُضُورُ قَلْبٍ حَيٍّ وَعِلْمُ مَعْنَى الْمَسْمُوعِ وَقَدْرِهِ، وَاسْتِشْعَارُ مَعْنَى مَطْلُوبٍ يُتَلَمَّحُ مِنْهُ، لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لَكِنَّ الْحَالَ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ مَا يَحْصُلُ لِهَؤُلَاءِ وَأَعْظَمُ مَعَ ثَبَاتِهِ وَقُوَّةِ جَنَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ. لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَصْدُقُ فِي هَذَا الْحَالِ، فَسُبْحَانَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ كُلِّ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ بَعْدَ السُّؤَالِ عَمَّا يَعْتَرِي الْمُتَصَوِّفَةُ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالْغِنَاءِ هَلْ هُوَ مَمْدُوحٌ أَوْ مَذْمُومٌ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ عَنْهَا مُجِيبٌ حَتَّى يُبَيِّنَ تَحْقِيقَ السُّؤَالِ، فَإِنَّ الصَّعْقَ دَخِيلٌ عَلَى الْقَلْبِ وَغَمًّا لَا عَزْمًا غَيْرُ مُكْتَسَبٍ وَلَا مُجْتَلَبٍ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَلَا إبَاحَةٍ، وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ سُؤَالِكِ أَنْ نَقُولَ: هَذَا التَّصَدِّي لِلسَّمَاعِ الْمُزْعِجِ لِلْقُلُوبِ الْمُهَيِّجِ لَلطِّبَاعِ الْمُوجِبِ لِلصَّعْقِ جَائِزٌ أَوْ مَحْظُورٌ؟ وَهُوَ كَسُؤَالِ السَّائِلِ عَنْ الْعَطْسَةِ هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ أَوْ مَحْظُورَةٌ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا يُجَابُ عَنْهَا جُمْلَةً وَلَا جَوَابًا مُطْلَقًا، بَلْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنْ عَلِمَ هَذَا الْمُصْغِي إلَى إنْشَادِ الْأَشْعَارِ أَنَّهُ يَزُولُ عَقْلُهُ وَيَعْزُبُ رَأْيُهُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ مِنْ إفْسَادٍ أَوْ جِنَايَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدَ ذَلِكَ وَهُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ لِشُرْبِ النَّبِيذِ الَّذِي يُزِيلَ عَقْلَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِي لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ فَإِنَّهُ تَارَةً يُصْعَقُ وَتَارَةً لَا، فَهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَلَا يُكْرَهُ، كَذَا قَالَ وَيَتَوَجَّهُ كَرَاهَتُهُ بِخِلَافِ النَّوْمِ فَإِنَّهُ وَإِنْ غَطَّى عَلَى الْعَقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُوَرِّثُ اضْطِرَابًا تَفْسُدُ بِهِ الْأَمْوَالُ، بَلْ يُغَطَّى عَقْلُ النَّائِمِ ثُمَّ يَحْصُلُ مَعَهُ الرَّاحَةُ.
قَالَ: وَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةُ الرَّبِّ، وَسَمِعَ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَسْمَعْ التِّلَاوَةَ إلَّا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا فَصَعِقَ السَّامِعُ خُضُوعًا لِلْمَسْمُوعِ عَنْهُ إلَى أَنْ قَالَ: فَهُوَ الصَّعْقُ الْمَمْدُوحُ يُعَطِّلُ حُكْمَ الظَّاهِرِ، وَيُوَفِّرُ دَرْكَ النَّاظِرِ، لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ: مَجَانِينَ، وَالظَّاهِرُ مِنْ خَارِجِ أَحْوَالِهِمْ، خَلَى مِمَّا يَلُوحُ لَهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute