للمفعول، واستعمال- نزل- أولا وأَنْزَلَ ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو- كما قال العلامة الثاني- قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف- ببعد- والمشهور أن المراد- بالضلال البعيد- الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه، ويجوز أن يراد ضَلالًا بَعِيداً عن الوقوع، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له، وزيادة- الملائكة واليوم الآخر- في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب، وقيل: اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة، وقرىء بكتابه على إرادة الجنس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي، وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان، ثم ارتدوا، ثم أظهروا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلّى الله عليه وسلّم في البر والبحر، وعن الحسن أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ثم يظهرون، ثم يقولون: قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ويستمرون على الكفر إلى الموت، وذلك معنى قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: ٧٢] ، وقيل: هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم، ثم آمنوا عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك عن قتادة، وقال الزجاج والفراء: إنهم آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير، ثم كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه السلام وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل.
وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم، ويؤيده ما
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في المرتد: إن كنت لمستتيبه ثلاثا، ثم قرأ هذه الآية
وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال: يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الاستتابة إذ لا منفعة، وعليه فالمراد من قوله سبحانه: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور:
المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر