والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره صُمٌّ وَبُكْمٌ وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم وبعضهم بكم. والجملة خبر المبتدأ والأول أولى. وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون الآيات سماعا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون. وقوله سبحانه: فِي الظُّلُماتِ أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع عُمْيٌ كما في قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: ١٨، ١٧١] ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق، واختير العطف فيما تقدم للتلازم، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل: ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات وأن يكون صفة لبكم أو ظرفا له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقابا لهم على كفرهم في الدنيا والكلام عليه متعلق بقوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ على أن الضمير للأمم على الإطلاق وفيه بعد. وقوله سبحانه: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلا فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول يشأ محذوف أي إضلاله. ولا يجوز أن يكون من مفعولا مقدما له لفساد المعنى، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده، وجوز بعضهم أن يكون مَنْ في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عطف على ما تقدم، والكلام فيه كالكلام فيه، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد. والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال: معنى يُضْلِلْهُ يخذله ولم يلطف به ويَجْعَلْهُ إلخ بلطف به، وقال غيره: المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى.
وكان الظاهر على ما قيل: أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض. ولهذا قيل في تفسير يَجْعَلْهُ إلخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جيء به للتأكيد. وليس اسما لأنه لو كان كذلك لكان إما مجرورا ولا جار هنا. أو مرفوعا وليس من ضمائر الرفع. ولا مقتضي له أيضا أو منصوبا وهو باطل لثلاثة أوجه، الأول أن هذا الفعل قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك: أرأيت زيدا ما فعل فلو جعل المذكور مفعولا لكان ثالثا.
والثاني أنه لو جعل مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى. وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيتك زيدا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية. والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتما كما وأ رأيتموكم وأ رأيتكن وهذا مذهب البصريين.
والمفعولان في هذه الآية قيل: الأول منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أي هو لها كما يدل