إلي أتصرف فيها كيفما أشاء استقلالا أو استدعاء حتى تقترحوا علي تنزل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهبا أو غير ذلك مما لا يليق بشأني.
وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على محل عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فهو مقول أَقُولُ أيضا، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه يؤدي إلى أن يصير التقدير ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وليس بصحيح. وأجيب بأن التقدير ولا أقول لكم أعلم الغيب بإضمار القول بين لا وأعلم لا بين الواو وَلا، وقيل: لا في- لا أعلم- مزيدة مؤكدة للنفي.
وقال أبو حيان: الظاهر أنه عطف على لا أَقُولُ لا معمول له فهو أمران يخبر عن نفسه بهذه الجمل فهي معمولة للأمر الذي هو قُلْ، وتعقب بأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نفيا لادعاء الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أدعي الإلهية.
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ولا أدعي الملكية، ويكون تكرير لا أَقُولُ إشارة إلى هذا المعنى. وقال بعض المحققين: إن مفهومي عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ. وإِنِّي مَلَكٌ لما كان حالهما معلوما عند الناس لم يكن حاجة إلى نفيهما وإنما الحاجة إلى نفي ادعائهما تبريا عن دعوى الباطل، ومفهوم إني لا أعلم الغيب لما لم يكن معلوما احتيج هنا إلى نفيه فدعوى أنه لا فائدة في الاخبار بذلك منظور فيها. والذي اختاره مولانا شيخ الإسلام القول الأول وأن المعنى ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب من أفعاله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت إنزال العذاب أو نحوهما.
وخص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغيب بعاقبة ما يصيرون إليه أي لا أدعي ذلك ولا أدعي أيضا الملكية حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري كما ينبىء عنه قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ [الفرقان: ٧] يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وليس في الآية على هذا دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما هو محل النزاع كما زعم الجبائي لأنها إنما وردت ردا على الكفار في قولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ وتكليفهم له عليهم الصلاة والسلام بنحو الرقي في السماء. ونحن لا ندعي تميز الأنبياء على الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلا والقدرة على الأفاعيل الخارقة كالرقي ونحوه ولا مساواتهم لهم في ذلك بل كون الملائكة متميزين عليهم عليهم الصلاة والسلام في ذلك مما أجمع عليه الموافق والمخالف ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل منهم بالمعنى المتنازع فيه وإلا لكان كثير من الحيوانات أفضل من الإنسان ولا يدعي ذلك إلا جماد.
وهذا الجواب أظهر مما نقل عن القاضي زكريا من أن هذا القول منه صلّى الله عليه وسلّم من باب التواضع وإظهار العبودية نظير
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني على ابن متى»
في رأي بل هو ليس بشيء كما لا يخفى. وقيل: إن الأفضلية مبنية على زعم المخاطبين وهو من ضيق العطن، وقيل: حيث كان معنى الآية لا أدعي الألوهية ولا الملكية لا يكون فيها ترق من الأدنى إلى الأعلى بل هي حينئذ ظاهرة في التدلي، وبذلك تهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء: ١٧٢] على تفضيل الملك على البشر إذ لا يتصور الترقي من الألوهية إلى ما هو أعلا منها إذ لا أعلا ليترقى إليه. وتعقب بأنه لا هدم لها مع إعادة لا أَقُولُ الذي جعله أمرا مستقلا كالإضراب إذ المعنى لا أدعي الألوهية بل ولا الملكية، ولذا كرر لا أقول.
وقال بعضهم في التفرقة بين المقامين: إن مقام نفي الاستنكاف ينبغي فيه أن يكون المتأخر أعلا لئلا يلغو ذكره، ومقام نفي الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا يتجاسر على دعوى الألوهية الأشد