فيحتاج إلى التوفيق. والجواب أن المراد باليأس إنكار سعة الرحمة للذنوب، ومن الأمن الاعتقاد أن لا مكر، ومراد الفقهاء من اليأس اليأس لاستعظام ذنوبه واستبعاد العفو عنها، ومن الأمن الأمن لغلبة الرجاء عليه بحيث دخل في حد الأمن ثم قال: والأوفق بالسنة طريق الفقهاء لحديث الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا حيث عدها من الكبائر وعطفها على الإشراك بالله تعالى اه وهو تحقيق نفيس فليفهم فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف عليه السلام بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم، وإنما لم يذكر إيذانا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان. وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين إلى أبيهم ثم عودهم إلى مصر وزعموا أنهم لما جاؤوا أولا للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي الله تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثني عشر ولدا هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث إنه كان يحبه كثيرا فقال: ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيئوا فلما أتوا به ووقع ما وقع من أمر السرقة أظهروا الخضوع والانكسار فلم يملك عليه السلام نفسه حتى تعرف إليهم ثم أمرهم بالعود إلى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته توراتهم اليوم وما بعد الحق إلا الضلال قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ خاطبوه بذلك تعظيما له على حد خطابهم السابق به على ما هو الظاهر، وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا؟ لم أر من تعرض لذلك فإن كانوا يعرفونه ازداد أمر جهالتهم غرابة، والمراد على ما قال الإمام وغيره يا أيها الملك القادر المنيع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الهزال من شدة الجوع، والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا، من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجي السحاب، وأنشدوا لحاتم:
ليبك على ملحان ضيف مدفع ... وأرملة تزجي مع الليل أرملا
وكني بها عن القليل أو الرديء لأنه لعدم الاعتناء يرمي ويطرح، قيل: كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا، وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء (١) وروي ذلك عن أبي صالح، وزيد بن أسلم، وقيل: سويق المقل والإقط، وقيل: قديد وحش، وقيل: حبالا واعدالا وأحقابا، وقيل: كانت دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمروي عن الحسن تفسيرها بقليلة لا غير، وعلى كل- فمزجاة- صفة حقيقية للبضاعة، وقال الزجاج: هي من قولهم: فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليست مما ينتفع به، والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصبر عليها حتى تنقضي كما قيل:
درج الأيام تندرج ... وبيوت الهم لا تلج
وما ذكر أولا هو الأولى، وعن الكلبي أن «مزجاة» من لغة العجم، وقيل: من لغة القبط. وتعقب ذلك ابن الأنباري بأنه لا ينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة.
وقرأ حمزة والكسائي «مزجية» بالإمالة لأن أصلها الياء، والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أتممه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها، واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ظاهره بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها.